شرح كتاب الطهارة من عمدة الأحكام .. الحديث الرابع
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم
وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فها نحن مع الدرس الرابع من شرح كتاب الطهارة
من عمدة الأحكام ، وهو حديث أبي هريرة t ، فأقول مستعيناً بالله :
الحديث الرابع
[4] عَن أَبِي
هُرَيرَةَ t ؛ أَنَّ رَسُولَ ٱللَّهِ r قَالَ : « إِذَا
تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً , ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ ,
وَمَنِ ﭐسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ . وَإِذَا ﭐسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ
فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي ﭐلإِنَاءِ ثَلاَثاً ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ » .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : « فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمِنْخَرَيْهِ مِنَ ﭐلْمَاءِ » .
وَفِي لَفْظٍ : « مَنْ
تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ » .
تَخريج الحديث :
هذا الحديث أخرجه البخاري في الوضوء ، باب
الاستنثار في الوضوء ، برقم ( 161 ) ، فقال :
حدثنا عَبْدَانُ قال : أخبرنا عبد الله(1)
قال : أخبرنا يونس ، عن الزهري قال : أخبرني أبو إدريس(2) أنَّه سَمع
أبا هريرة ؛ عن النبي r أنَّه قال : « مَنْ
تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ، وَمَنِ ﭐسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ » . ومناسبة
الحديث للباب ظاهرة وهي أمره r بالاستنثار في الوضوء .
كما أخرجه في الوضوء أيضاً باب الاستجمار
وتراً ، برقم ( 162 ) ، فقال :
حَدَّثَنَا عَبدُ ٱللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ
: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ ، عَن أَبِي ٱلزِّنَادِ ، عَن ٱلأَعْرَجِ ، عَن أَبِي هُرَيرَةَ
؛ أَنَّ رَسُولَ ٱللَّهِ r قَالَ : « إِذَا تَوَضَّأَ
أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لْيَنْثُرْ ، وَمَنِ ﭐسْتَجْمَرَ
فَلْيُوتِرْ ، وَإِذَا ﭐسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ
قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي وُضُوءِهِ ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ
بَاتَتْ يَدُهُ » .
والمناسبة ظاهرة ؛ وهي في قوله : « وَمَنِ ﭐسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ » .
كما أخرجه مسلم في الطهارة باب كراهة غمس
المتوضئ وغيره يده المشكوك في نَجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً ، فقال :
حدثنا نصر بن علي الجهضمي وحامد بن عمر
البكراويُّ قالا : حدثنا بشر بن المفضَّل ، عن خالدٍ ، عن عبد الله بن شقيق ، عن
أبي هريرة ؛ أنَّ النبي r قال : « إِذَا ﭐسْتَيْقَظَ
أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي ﭐلإِنَاءِ حَتَىٰ يَغْسِلَهَا
ثَلاَثاً ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدَهُ » .
كما أخرجه مالك في الموطأ في الطهارة باب
وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة ، برقم ( 40 ) ، فقال :
عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أنَّ رسول الله r قال : « إِذَا
ﭐسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ
يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ
يَدُهُ » .
كما أخرجه أبو داود في الطهارة بابٌ في الرجل
يُدخِل يده في الإناء قبل أن يغسلها ، برقم ( 103 ) ، فقال :
حدثنا مُسَدَّدٌ قال : حدثنا أبو معاوية ، عن
الأعمش ، عن أبي رزين وأبي صالِح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله r : « إِذَا قَامَ
أَحَدُكُمْ مِنَ ﭐللَيْلِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي ﭐلإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا
ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَإِنَّه لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ » .
كما أخرجه الترمذي في الطهارة باب ما جاء إذا
استيقظ أحدكم من منامه ، برقم ( 24 ) ، فقال :
حدثنا أبو الوليد أحْمد بن بكَّارٍ الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن سعيد ابن المسيَّبِ وأبي
سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي r قال : « إِذَا ﭐسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ
مِنَ ﭐللَيْلِ فَلاَ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي ﭐلإِنَاءِ حَتَّىٰ يُفْرِغَ عَلَيْهَا
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ »
.
كما أخرجه النسائي في الطهارة باب تأويل قول
الله عزَّ وجلَّ : [إِذَا قُمْتُمْ إِلَىٰ ٱلصَّلَوٰةِ
فَٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ] الآية ، برقم ( 1 ) ، فقال :
أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سَلمة ، عن أبي هريرة ، أنَّ ﭐلنبي r قال : « إِذَا ﭐسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ
مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي وُضُوءِهِ حَتَّىٰ يَغْسِلَهَا ثَلاَثاً ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ » .
كما أخرجه أحْمد في مسنده ( 12 / 227 ) برقم
( 7282 ) ، فقال :
حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن
أبي هريرة t ، روايةً : « إِذَا ٱسْتَيْقَظَ
أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ ، فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِي إِنِائِهِ ؛ حَتَّىٰ
يَغْسِلَهَا ثَلاَثاً ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ » .
راوي الحديث :
سبقت ترجَمته معنا في الحديث الثاني .
موضوع الحديث :
وجوب الاستنشاق والاستنثار ، ووجوب الإيتار
في الاستجمار ، والنهي عن غمس اليد في الوَضوء حتى يغسلها خارج الإناء ثلاثاً .
المفردات :
قوله « إذا توضأ
أحدكم » : أي شرع في الوُضوء .
قوله « ليستنثر
» : الاستنثار هو دفع الماء وإخراجه من الأنف بالنفس ، وأمَّا إدخاله وجذبه إلى
الأنف عن طريق النفس .
قوله « ومن استجمر
» : الاستجمار هو استعمال الجمار - وهي الأحجار - لقطع الخارج من السبيلين .
قوله « فليوتر
» : أي ليكن عدد المرات وتراً ، والوتر هو الفرد من العدد .
المعنى الإجْمالي :
أمر النبي r المتوضئ بالاستنشاق وهو جذب الماء بالنفس إلى أعلى الأنف ، ثُمَّ
طرده خارجاً عن النفس وهو ما يعرف بالاستنثار .
كما أمر المستجمر وهو الذي ينوي رفع الحدث
الخارج من أحد السبيلين عن طريق الجمار التي هي الأحجار ؛ أمره النبي r بالإيتار وهو العدد الفردي من واحد إلى تسعة .
كما أمر النبي r المستيقظ من نومه بغسل يده خارج الإناء ثلاثاً والعلة في ذلك
أنَّه لا يدري في أي مَحل باتت يده .
فقه الحديث :
أولاً : وجوب الاستنشاق على من شرع في الوضوء لأمر النبي r بذلك ، وهو دليل على ما ذهب إليه أحْمد وداود ، وأبو ثور وإسحاق من وجوب الاستنشاق لأنَّه أمر ، والأمر كما نقول دائماً أنَّه
يقتضي الوجوب إذا لَم يوجد له صارفٌ .
وذهب الشافعي ومالك إلى سنيته وجعلوا الصارف
هو عدم الذكر في الآية ؛ والأول أرجح لأنَّه ورد في السنة ؛ والسنة كما تعلمون
شارحة القرآن .
وأمَّا أبو حنيفة فذهب إلى وجوبه في الغسل
دون الوضوء هو والمضمضة ، وهذا التخصيص تفريق لا دليل عليه .
ثانياً : عدم
صحة وضوء من لَم يستنشق الماء إلى أعلى الأنف ، إنَّما اكتفى بالمسح على الأنف فقط ، فوضوءه غير صحيح وبالتالي عدم صحة الصلاة التي صلاَّها بِهذا الوضوء .
ثالثاً : وجوب
الاستنثار في الوضوء وحكمه في هذا تبع للاستنشاق ، لقول
النبي r : « وَبَالِغْ فِي
ﭐلْمَضْمَضَةِ وَﭐلاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَن تَكُونَ صَائِماً » ، ولا شكَّ
أنَّ المبالغة في الاستنشاق هي إيصال الماء إلى أعلى الأنف ثُمَّ طرده عن طريق
الاستنثار .
رابعاً :
وجوب الإيتار في الاستجمار ، لأمر النبي r بذلك ، ولا صارف له هنا إلى الندب ، ومن استدلَّ بِحديث أبي
هريرة « من استجمر فليوتر ، من فعل ذلك فقد أحسن ومن لا
فلا حرج » ، هذا الحديث رواه أحْمد وأبو داود في الطهارة باب الاستتار في
الخلاء برقم ( 35 ) ، ومدار إسناده على « حصين
الحميري » وهو مَجهول كما ذكره الذهبي وابن حجر والخزرجي وغيرهم ، وبه أعلَّه
الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير وذكر أنَّ في سنده اختلافاً . كما رواه ابن ماجه .
وهذه علة قادحة يُرَدُّ بِها هذا الحديث ويبقى
الأمر على ظاهره وهو وجوب الإيتار في الاستجمار في حال أنَّه لَم يَجد ماء يستنجي
به ، ومن جَمع بين الاستجمار والاستنجاء فهذا لا أصل له وإن اشتهر عند بعض الفقهاء
حديث أهل قباء المروي عن ابن عبَّاس كما حكاه ابن كثير - رحمه الله - ، قال ولم
يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين أو كلهم ، والله أعلم(3) . فصار فعل
الأمرين مجتمعين لم يردا عن النبي r ولا عن أصحابه y .
خامساً :
اختلف الفقهاء هل تكفي واحدة في الجمار أم تكون ثلاث ؟ ، فقال الشافعي وأحْمد : « يشترط
في الاستجمار شرطان : الإنقاء وبثلاث مسحات فأكثر » .
وقال مالك وأبو حنيفة باشتراط الإنقاء دون
العدد ، فلو حصل الإنقاء بِمسحة واحدة جاز عندهم .
أقول -
والقول لأبي حمود عفا الله عنه - : والصحيح ما صَحَّ به الحديث عن سلمان أنَّه
ثلاثة أحجار وليس ثلاث مسحات ، لأنَّ دقة اللفظ مهمة هنا .
سادساً : أن
النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها هو مَحل إجْماع كما حكاه النووي في شرح
مسلم ، وأوضح أنَّ الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنَّه نَهيُ تَنْزِيهٍ
لا تَحريِم .
وحُكِيَ عن أحْمد بن حنبل رواية أنَّه إن قام
من نوم الليل كُرِهَ كراهة تَحريِم ، وإن قام من نوم النهار كُرِهَ كراهة تَنْزِيهٍ ، ومِمَّن وافقه على هذا داود بن علي الظاهري اعتماداً على لفظ المبيت في الحديث .
وقد ضَعَّفَ النووي هذا القول وذكر على أنَّ النبي r نَبَّهَ على العلة بقوله : « فَإِنَّهُ
لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ » .
سابعاً : وجوب
غسل اليدين ثلاثاً خارج الإناء على من استيقظ من النوم وأراد أن يتوضأ . ولا فرق
فيه بين نوم الليل أو نوم النهار .
ثامناً :
اختلف أهل العلم ما إذا كان خُصَّ نوم الليل عن نوم النَّهار في هذا الحكم أم أنَّ
الحديث يشملهما معاً .
والصحيح أنَّه لا فرق بين نوم الليل ونوم
النَّهار في الحكم ، لأنَّ الحكم هنا أغلبي .
والذين استدلُّوا باللفظ « فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ »
في إفراد نوم الليل عن نوم النَّهار في الحكم ، نقول أنَّه لا حجة لَهم في ذلك ، لأنَّ اللفظ أغلبي .
هذا والله أعلم ، وبالله التوفيق .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو عبد
الله بن عثمان المروزي .
(2) هو أبو
إدريس هو الخولاني .
(3) انظر
تفسير ابن كثير ( 4 / 217 ) .
كتبه
أبو حمود هادي محجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
| روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
| URL | |
| HTML | |
| BBCode | |
















0 التعليقات: