مكتبة أبي حمود العلمية

القول المعتبر في عقيدة النووي وابن حجر . . .


بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضِلَّ له ؛ ومن يُضلِل فلا هاديَ له ، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً كثيراً .
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ (١) ، يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا ١ (٢) ، يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلًا سَدِيدًا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١ (٣) ، أمَّا بعد :
    فإنَّه منذ فجر التدوين الإسلامي إلى يومنا هذا وسنة المُدَوِّنِينَ من أهل الإسلام هي استدراك اللاحق على السابق وتصويب اللاحق للسابق ، إذ الكمال لا يستقيم لأحد مهما بلغ في المنزلة والعلم . ولكن متى كان احتكار الحق في زمن معين أو نفيه عن أحد دون موجب ودونما انصاف فعند ذلك ينبغي مراجعة الدوافع والحامل على ذلك .
    ولكن من كان أساسه ومنطلق عقيدته خربا فذاك من يستحق التبديع ونسبه إلى خلاف هديِ السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين .
    أمَّا من كان على هدي المحدِّثين ولكن كان به من لوثة أهل زمانه فمثل هذا ينبغي أن تكون منصفاً معه حين تستعرض جهوده العلمية وألَّا تكون منجرفاً وراء ظنون قَصُرَ بك فهمك عن أن يبلغ بك معها إلى مراحل النقد العلمي المنصف وأن تذكر لكل ذي حقٍّ حقه .
    لا سيما إذا كان المتكلم عنه كأمثال النووي وابن حجر رحمهما الله . فإنني منذ أن بدأت دراستي عند العلماء وخاصة شيخنا أحمد النجمي رحمه الله وشيخنا زيد المدخلي رحمه الله تعلمت منهما الإنصاف في النقد سواءٌ حين الكلام عن الكاتب أو عن المكتوب .
    وكل علمائنا الأجلاء مشوا على هذه الوتيرة في الإنصاف في النقد . وقد كثر الكلام على النووي وابن حجر في نسبتهما إلى معتقد الأشعرية وهما بريئان من هذه التهمة وهذا الانتساب . وكم كنت أسمع شيخنا الشيخ زيداً رحمه الله يكرر مراراً نفي هذه التهمة عنهما رحمهما الله ويذكر لهما فضلهما في الإسلام في الفقه والحديث ويعتذر لهما فيما وقعا فيه من بعض التأويل .
    وهكذا هو العالم الحق الذي يعرف علماء الإسلام وما لهم من الفضل والقدر ، لا كما يقدمُ كثيرٌ من صغار طلاب العلم على نسبهما للأشعرية ولا يبالي نسأل الله العافية والسلامة . إذ أنَّ في نسبتهما لهذه الفرقة إخراجٌ لهما من طريق أهل الحديث ، ولا ينكر فضلهما وقدرهما في علوم الحديث إلَّا أحد رجلين :
    إمَّا أنَّه لم يعرف مذهب المحدثين ، وإمَّا أنه لم يعرف الأشعرية وما يرتكزون عليه من أصول في عقيدتهم .
    وهو الذي دفعني لكتابة هذه الأسطر وبيان موقف النووي وابن حجر من أصول الأشعرية في عقيدتهم .
    ولكن دعونا أولاً نستعرض أصول عقيدة الأشعرية على عجالة ، حيث أنها تقوم على ثلاثة أصولٍ رئيسية :
    أولًا : موقف الأشعرية من نصوص الوحيين وكيفية تعاملهم معها ؛ فهم يقدمون العقل على النقل ، وقد وافقوا المعتزلة في هذا الأصل الذي كان سبباً في وقوع هذه المصائب التي حلَّت بعقائد المسلمين وما انبثقَ عنه من أمورٍ سردها المؤرخون من أهل الإسلام في دواوينهم .
   لكون الإمام الحسن الأشعري كان معتزلياً بادئ حياته العلمية ، ثم انفكاكه من الاعتزال وما جرَّه الاعتزالُ على المسلمين من خرابٍ في العقيدة وفساد ؛ وخروجه على المسلمين بعقيدته اللاحقة التي نُسِبَت إليه .
    وعلى هذا ألزموا المسلمين بوجوب هذا الأصل لديهم ، فإن كان النص مِمَّا يُحتَجُّ به كأن يكون النصُّ قرآناً أو حديثاً صحيحاً ؛ أوَّلوه بما يوافق مقتضى العقل لديهم . أو قالوا بضعفه إذا كان نصاً نبوياً لم يوافق مقتضى العقل لديهم .
    فمن هنا كانت موافقة أتباع الحسن الأشعري من بعده للمعتزلة في هذا الأصل من هذا الجانب . ثم رجوعه عن هذا المعتقد الباطل إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ووفاته عليها ، بعد أن كتب فيها كتابه المشهور ( الإبانة عن أصول الديانة ) . وبقاء من كان تبعه على ذلك المعتقد الثاني ونشرهم لهذا المعتقد بين المسلمين عبر عصور الإسلام ؛ إلى يومنا هذا .
    ثانياً : أنَّهم التفتوا إلى النقل فجعلوه على قسمين من حيث طرقه ، آحاد - ومتواتر . فأمَّا المتواتر فقطعوا بحجيته في كل بابٍ من أبواب الفقه الإسلامي . وأمَّا أحاديث الآحاد فإنَّهم جعلوه حجة في كل بابٍ إلَّا العقائد ، وردُّوا القول بحُجِّيَّة أحاديث الآحاد في الاعتقاد . ويشمل ذلك ما ورد من حديثٍ قدسي أو نبوي ، ما دام أنَّه آحاد فليس بحجة لديهم في العقيدة . هكذا من عند أنفسهم حتى يردوا ما ثبت في الأسماء والصفات خاصة . وحتى المتواتر فقد قبلوا حُجِّيَّتَه على مضض وجعلوا له أصلاً ثالثاً في معتقدهم يردونه به إلى الأصل الأول .
    ثالثاً : وجوب تأويل ما ثبتت حُجِّيَّتُه بما يتوافق مع مقتضى العقل . فهجموا على ما ثبتَ عندهم من النصوص بهذا الأصل الثالث فأوَّلوها تأويلاً فاسداً يوافق مقتضى عقولهم ويخالف ظواهر ألفاظ النصوص بخلاف ما يثبت بالإسناد عند السلف الصالح وبما يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة . فمثلاً كلنا يعلم تأويل الأشعرية لاستواء الله على عرشه وموقفهم من الاستواء وتأويلهم له باستولى ومنطلقهم في تأويلهم لهذه الصفة وغيرها من الصفات التي أوَّلوها بما يوافق مقتضى العقل عندهم بزعمهم . فأتوا بما لا يوافق لغة ؛ ناهيك عن نقل .
    ولعلَّ قارئاً يسأل فيقول : وأين موقع النووي وابن حجر من الإعراب في هذا الاستطراد لأصول وركائز معتقد الأشعرية ؟ .
    فأجيبه ؛ بأنَّ المستقرئ بإنصافٍ والمتجرد للحق في إعطاء كل ذي حقٍّ حقه ، والمستعرض لكتابات الإمامين الجليلين النووي وابن حجرٍ في كتبهما ، يتبين له مخالفتهما لهذه الأصول الثلاثة عند الأشاعرة ، ومن هنا وجب على الملصق بهما تهمة المعتقد الأشعري أن ينظر ملياً إلى موقفهما رحمهما الله من نصوص الوحيين ؛ عندها يتبين له الأمر على خلاف ما كان يظن .
    ومن هذا المنطلق فإنَّ المستقرئ المنصف بمجرد النظر لمنهج الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم - رحمه الله - ، ومنهج الإمام ابن حجر - رحمه الله - في شرحه لصحيح البخاري - رحمه الله - ، يتجلى له بكل وضوح عدم ثبوت تقديمهما للعقل على النقل أبداً ولو في سطرٍ واحدٍ مما دوناه ثَمَّ .
    بل إنَّ ابن حجر - رحمه الله - أقدم على شرح صحيح البخاري - رحمه الله - وهو يعلم أنَّ الإمام البخاري - رحمه الله - صدَّر صحيحه بحديث آحاد وختمه بحديث آحاد . ومع ذلك ما ردَّ واحداً منهما أبداً .
    إذ أنَّ من عَظَّمَ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدم سنته صلى الله عليه وسلم كان مِمَّن استحق لقبَ الإمامة في الإسلام وحُقَّ له أن يُفَرِّدَهُ المحدثون بلقب الحافظ ، فما بالنا وقد جعلهما الله تبارك وتعالى وعائين عظيمين من أوعية السنة والفقه .
وليأتنا شاكٌّ في هذا بما يخالف هذا الكلام مما سطرت أنامل الإمامين في دواوينهما لما عليه المحدثون في مسألة تقديم النقل على العقل مطلقاً .
    وقد يقول أحدهم أنَّ حديث [ إنما الأعمال بالنيات ] ليس في العقيدة ، فلذلك شرحه ابن حجر ولم يجد في شرحه له غضاضة كونه حديث آحاد . فأقول له إنَّ ابن حجر نَفسَه في شرحه لهذا الحديث في فتح الباري سرد أقوال أهل العلم في كون هذا الحديث ربع الدين ومنهم من قال أنه ثلثه ، ومنهم من قال أنَّه نصفه ، وبيَّنَ أهمية هذا الحديث وأنَّه ما من بابٍ من أبواب العلم إلَّا ويدخلُ فيه . أفلا تكون العقيدة عنده من باب أولى برغم كونه حديث آحاد .
    وأمَّا آخر حديثٍ شرحه ابن حجر في صحيح البخاري هو آخر حديث أورده البخاري في صحيحه تحت باب قوله تعالى : وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ (٤) ، هو قوله صلى الله عليه وسلم : [ كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ] (٥) ، وهذا هو الشاهد من الحديث على الباب ، وهو أنَّ الحديث فيه إثبات الميزان وإثبات وزن أعمال العباد يوم القيامة .
    ولننظر بِمَ علق ابن حجر رحمه الله على هذا الحديث في فتح الباري . قال رحمه الله : [ وقوله : ثقيلتان في الميزان هو موضع الترجمة لأنه مطابق لقوله : وأنَّ أعمال بني آدم توزن ] (٦) ا.هـ
    وهذه الأصول التي وضعها العقليون لخدمة معتقداتهم سواء المعتزلة أو الأشعرية ومن نحا نحوهم مِمَّن يرون تقديم العقل على النقل وإعمال العقل في النصوص وتأويلها تأويلاً فاسداً ، قد ردَّ عليهم علماء أهل السنة والجماعة منذ ظهور أصولهم هذه . من ذلكم ما سطَّره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه درء تعارض العقل والنقل ، فقد ردَّ عليهم هذا الأصل البائس من أربعة وأربعين وجهاً تقريباً ، يمكن لمن استقرأ كتابه هذا أن يجدها هناك .
    ومن أهم هذه الوجوه :
    ورود الاختلاف والتضاد في القضية الواحدة عند العقليين ، لما لعقولهم من الاختلاف والتضاد والتنوع في الفهم والإدراك والتأويل .
    وبين - رحمه الله - أنَّ من حججهم في تقديم العقل على النقل عند توهمهم التعارض بينهما هي كون العقل عندهم موثوقاً به ومعتمداً عليه .
    والحقُّ أن هذا مردودٌ عليهم باعتبار أنَّ القدح في بعض العقليات لا يعتبر قدحاً في أصل المسائل الدينية المعتمدة على بعض القضايا العقلية ، بخلاف ما صوره العقليون لتمرير اعتباراتهم الذهنية للفهم وتأويل النصوص .
وحاصل الأمر ؛ أن هذا ليس مكان سرده ومناقشته في هذه الأسطر .
    فالإمام النووي والإمام ابن حجر رحمهما الله ؛ لم يعرف عنهما تقديم للعقل على النقل ، ولا إعمال منهما للعقل ليكون حاكماً على تأويل النقل أبداً .
    وأن ما كان منهما في صرف بعض الصفات عن مذهب أهل السنة والجماعة هو من قبيل لوثة الزمان والمكان الذي عاشا فيه . فقد ظهرا في زمان كان فيه للأشعرية اليد الطولى في بسط معتقدهم على بلاد المسلمين . حتى أنَّ طالب العلم المبتدئ قد يشكل عليه ما قد يقرأه من بعض كتابهم حين يقول وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة . بينما الكاتب يريد أن هذا معتقد الأشعرية الذين سادوا على المسلمين في زمانه حتى شاع معتقدهم بين المسلمين فأصبحوا هم السواد الأعظم نسبة بمن يعتقد معتقدهم .
    فقد يكون ما دخل على الإمامين رحمهما الله في تأويل بعض الصفات لوثة من أستاذ أو من بيئة عاشا فيها على نحو ما ذكرتُ آنفاً .
    أقول هذا دفاعاً عنهما رحمهما الله ، إنصافاً لهما ، لما لهما من فضل ومنزلة عند المحدثين ، ولما خدما به السنة النبوية من أعمال جليلة لا يجهلها من له أدنى دراية بعلوم الحديث ، ولما لهما من عناية بالفقه الإسلامي على وجه العموم . وحتى لا يدخل على بعض إخواننا من طلاب العلم شيءٌ ما ؛ قد يكون سبباً لظهور حدادية جديدة نسأل الله العافية والسلامة .
    وبعد هذا التحرير في أصول عقيدة الأشعرية ربما أنَّه يكون قد استبان للقارئ الكريم ، براءة الإمام النووي والإمام ابن حجر رحمهما الله - من تهمة اعتقادهما لعقيدة الأشعرية .
    هذا وأسأل الله أن يجعلنا ممن يقول ويصدق ويحكم فينصف ، وإلَّا فالنقص سمة البشر ولا يخلو منه أحد . هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً .

كتبه فقير عفو ربه
أبو حمود هادي بن قادري بن حسين محجب
الأربعاء ٢٢ / ٨ / ١٤٤١هـ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(١) [ آل عمران : ١٠٢ ] .
(٢) [ النساء : ١ ] .
(۳) [ الأحزاب : ٧٠ - ٧١ ] .
(٤) [ الأنبياء : ٤٧ ] .
(٥) أخرجه البخاري في التوحيد باب قوله تعالى : وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ ، برقم ( ٧٥٦٣ ) .
(٦) ( ١٧ / ٦٣١ ) ط طيبة .





روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode

0 التعليقات:

المقالات

   البلاغة العربية نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة والعربية    همسة في صماخ الأستاذ علي حملي    إشباع النهم ببيان أقسام تعلق الكلم    الشيخ محمد أيوب رحمه الله سيرة وعطاء    التوحيد هو أعظم الأمور وأهمها    البيان والارتجال في الخطابة والوعظ والمقال    العلم الشرعي وأثره في حياة سلفنا الصالح    الأخوة الإيمانية عند حسام العدني    دولة فاحش والحرب على الإسلام بالوكالة وتفجيرات باريس


Flag Counter

التصفح المباشر

مواقع سلفية

   مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية