مكتبة أبي حمود العلمية

الدرس الثاني - منازل رمضان . . .

  
منازل رمضان

    إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
    يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢(١)، يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١(٢)، يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١(٣)، أمَّا بعد:
    فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار.
    وكما تعلمون أنَّ رمضان ضيف العام، ينزل علينا أياماً معدودة. والنَّاسُ في استقباله مختلفون، ومتفاوتون في العيش معه أيام حلوله إلى وقت ارتحاله، فإنَّه ضيفٌ متعدِّدُ المنازل.
    فمن منازله: تظل مترقبةً بحُبٍّ وصولَه، وتعُدُّ الشهور والأيام والليالي شوقاً لاستقباله، فقد بَرَّحَ بها الانتظار، وكادت أن تذوب شوقاً؛ حرصاً على لقاء حبيبٍ مُنتَظَرٍ، ألِفَتْ في نُزُولِه الراحة والسعادة تحت دوحة الطاعة الظليلة، حينما قضت حَقَّ قِرَاهُ، وقامت بواجب الضيافة ومستحبه، فلسان حالها ومقالها لرمضان:
               فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحباً     فهذا مَبِيتٌ صالحٌ وصديقُ(٤)
    فهذه المنازل الكريمة تملكُ قلوباً حيَّةً، وأرواحاً مشرقة، فرأت في نزول رمضان عليها غنيمة باردةً تتزَوَّدُ منها مغانم ليومِ المغارم، وسحابةً هتَّانَةً تهمي عليها بوابِلٍ من الطاعات إلى ما لديها من طاعات، فتكون: ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ(٥)، فلهذا تحيا منازلها مع هذا الضيف الكريم حياةً طيبة، تغمرُها البسمة واللذة، فإذا دنت ساعات الرحيل رسمت ذكراها على القلوب الألم، وعلى الوجوه الحزن، وربما أرسلت على الخدود دموع الوَلَه، والحال كما قال ابن المعذل:
إنَّ السرور تَصَرَّمَتْ أيَّامُهُ     مِنِّي وفَارَقَنِي الحبيبُ المُؤْنِسُ
حالانِ لَا أَنْفَكُ مِنْ إحْدَاهُمَا      مُـسْـتَـعْـبِـراً أو بـاكِـــيـاً أَتَـنَـفَّـسُ
ولِمِثْلِهِ بَكَتِ العيون صَبَابَةً         ولِمِثْلِهِ حَزِنَتْ عليه الأَنْفُسُ(٦)
    ومن منازل رمضان: قومٌ يستعدون لاستقبال ضيف العام بإعداد قائمة طويلة من مطعومات رمضان ومشروباته، فإذا اقترب الوعد الحق خرجوا إلى الأسواق، فآبوا بالأسواق إلى بيوتهم، فحملوا من الطعام والشراب ما اتفق في اللون والطعم والحجم، فمن أصنافه: صنوفٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود، ما إنَّ جملة ذلك لتنوء بالعصبة أولي القوة، كأنَّ رمضان هبط وحشاً كاسراً أجيع سنة كاملة فجاء إليهم يذيبُ الشحم، ويأكل اللحم، وينقي العظم فإذا نزلَ بهم مدُّوا الموائد، وأوسعوا البطون، وأتعبوا النساء في المطابخ، وعانى عُمَّالُ النظافة بقايا أخونة(٧) طعامهم وشرابهم. ولهذا يفرح تجار الأغذية بدخول رمضان فرحاً شديداً، لا بفضائله ونوائله، ولكن لأرباحهم المالية فيه؛ بسبب هذا الصنف من النَّاس.
    فأهل هذه المنازل يُعِدُّون رمضان للأجساد لا للأرواح؛ وللبطون لا للقلوب، ولهذا يُرَونَ بطاءً في مسالك القربات، سراعاً إلى طرق اللهو والملذات، فيثقل عليهم الصيام، وتطول عليهم الأيام، ويخرج رمضان ضيفاً ثقيلاً، ونازلاً مكروها، وراحلاً محبوب الرحيل، فكان الحال:
ولـمَّـا قضينا بالـغِـذا كـلَّ حـاجـة     وأوسَعَ في الإسـرافِ من هو آكلُ
فَتَرْنَا عنِ الطاعاتِ وامْتَدَّ شهرنا     وفاتَتْ ذَوِي التَّبْذِيرِ تِلكَ الفَضَائِلُ
    ومن منازل رمضان: منازل قوم لا يأذنون لرمضان بدخولها، ولا يقبلون بنزوله عليهم؛ فهم ليسوا من أهل الطاعة، بل هم من هواة الخطيئة؛ ولذلك يفطرون رمضان معلنين بين الناس، أو غير معلنين، فرمضان عندهم كشعبان وشوال، فيمضي عنهم الشهر الكريم شاكيًا إلى ربه ما لقي من لؤمهم وتعديهم، أفلا يظن هؤلاء أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فماذا سيقولون لله تعالى إذا قابلوه ولم يكرموا ضيفه ، وقد جاءهم ليكرمهم ؟!، وما موقفهم يوم القيامة وهم يرون كرمَ العطاء لمن نزل عليهم رمضان فأكرموه؟.
    قال الأصمعي: أنشدني رجلٌ من أهل البصرة:
      فما لك يومَ الحشرِ شيءٌ سوى الذي        تَزَوَّدْتَهُ قبلَ الحسابِ إلى الحشر
إذَا أنتَ لمْ تَزْرَعْ وأَبْصَرْتَ حاصداً     نَدِمْتَ على التَّضْيِيعِ في زمَنِ البَذْرِ(٨)
    هذا؛ وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد؛ وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) [آل عمران:١٠٢].
(٢) [النساء:١].
(٣) [الأحزاب:٧٠-٧١].
(٤) البيت لعمرو بن الأهتم، انظر البيان والتبيين للجاحظ، ت عبد السلام هارون، ص٢١.
(٥) [البقرة:٢٦٥].
(٦) ديوان عبد الصمد بن المعدَّل ص٧٦.
(٧) (الخوان): ما يُؤكَلُ عليه، (ج) أخونة وخُوَنٌ وأخاوين. المعجم الوسيط (٢٦٣/١).
(٨) أمالي ابن دريد ص٢٥.

نقله بتصرف
أبو حمود هادي محجب





0 التعليقات:

المقالات

   البلاغة العربية نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة والعربية    همسة في صماخ الأستاذ علي حملي    إشباع النهم ببيان أقسام تعلق الكلم    الشيخ محمد أيوب رحمه الله سيرة وعطاء    التوحيد هو أعظم الأمور وأهمها    البيان والارتجال في الخطابة والوعظ والمقال    العلم الشرعي وأثره في حياة سلفنا الصالح    الأخوة الإيمانية عند حسام العدني    دولة فاحش والحرب على الإسلام بالوكالة وتفجيرات باريس


Flag Counter

التصفح المباشر

مواقع سلفية

   مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية