شرح كتاب الطهارة من عمدة الأحكام .. الحديث الأول
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فيسرنا في هذه الدورة لهذا الشهر - شهر الله المحرم – من هذا العام ستة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ؛ أن نستكمل معكم شروحات ما كنا قد بدأنا به فيما سبق ، وكنا قد توقفنا لأسباب . وها نحن اليوم الاثنين الموافق للحادي عشر من شهر الله المحرم لهذا العام مع الدرس الأول من شرح كتاب الطهارة من متن ( عمدة الأحكام من كلام خير الأنام صلى الله عليه وسلم ) ، لعبد الغني المقدسي الجماعيلي رحمه الله تعالى . فنسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد ، والإخلاص والله من وراء القصد .
فقال رحمه الله تعالى : « كتاب الطهارة » .
الكتاب لغة : معناه الضم والتأليف والجمع ، واصطلاحاً : ما جَمع أبواباً وفصولاً مرجعها إلى أصل واحد . والطهارة لغة : النَّزاهة والنظافة . وهي بفتح الطاء على وزن فَعَالَةٍ من التطهر ومعناه التنَزُّهُ ؛ ومنه قوله تعالى : ]إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ[(١) ، وقوله تعالى : ]إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا[ (٢) .
وأما اصطلاحاً : فجاء في تعريفها معانٍ عدة ؛ بعضها قريبٌ من بعض ، من أشهرها ما يذكره أكثر الفقهاء في تعريفهم للطهارة وهي ارتفاع الحدث وما في معناه ؛ وزال الخبث . وهو تعريف موفق الدين ابن قدامة - رحِمه الله - في المغني . وجاء عن ابن الملقن - رحِمه الله - في الإعلام أنَّها فعل ما يستباح به الصلاة وهو فيما يرى أنه أحسن حدودها وأخصرها(١) .
وأما بضم الطاء على وزن فُعالة فهي فضل طُهور المرء .
وهي على قسمين : معنوية وتكون من الكفر والشرك والبدع والمعاصي . وحسية وهي المقصودة بالتعريف هنا .
وأمَّا لِماذا ابتدأ المصنف كتابه بالطهارة هو وغيره من الفقهاء كذلك ؛ فلتعلقها بأشرف ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين ألا وهي الصلاة ، ولأنَّها آكد شروطها وهي مفتاحها كما جاء عند أحْمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : «مفتاح الصلاة الطَهور وتَحريِمها التكبير وتَحليلها التسليم»(٢) . وهي أول ما يبتدئ به المكلف من شروط الصلاة . فقد تكون بالماء وهذا هو الأصل ، وقد تكون بالتراب أي التيمم ، فلهذا يُقدَّمُ الماء في ترتيب الفقهاء على التيمم . ولكن من المحدثين من بدأ بغير الطهارة , فالبخاري - رحِمه الله - بدأ بكتاب بدء الوحي ، ومسلم - رحمه الله – بدأ بالإيمان ، ومالكٌ - رحمه الله - بدأ بوقوت الصلاة ، وغيرهم بدأ بالوضوء وهكذا . ولكن صار اتفاقاً عند أغلب الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين البدء بالطهارة .
الحديث الأول
[١] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ, وَإِنَّمَا لِكُلِّ ﭐمْرِئٍ مَا نَوَى» . متفق عليه .
تَخريج الحديث :
هذا الحديث أخرجه البخاري رحِمه الله في صحيحه في بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (١) ، فقال :
حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا يَحيى بن سعيد الأنصاري ، قال : أخبرني مُحمد بن إبراهيم التَّيْمي ، أنَّه سَمعَ علقمةَ بنَ وَقَّاصٍ الليثيَّ ، يقول : سَمِعْتُ عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه على المنبر قال : سَمِعْتُ رَسُولَ ﭐللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيِّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ ﭐمْرِئٍ مَا نَوَىٰ ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَىٰ ﭐمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا , فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه في الإيِمان باب ما جاء إِنَّ الأعمال بالنِّيَّةِ والحسبة ولكلِّ امرئ ما نوى برقم ( ٥٤ ) ، فقال :
حدثنا عبد الله بن مسلمة ، قال : أخبرنا مالك ، عن يَحيى بن سعيد ، عن مُحمد بن إبراهيم ، عن علقمةَ بن وَقَّاصٍ ، عن عمر ، أنَّ رَسُولَ ﭐللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : «ﭐلأَعْالُ بِالنِّيَّةِ ، وَلِكُلِّ ﭐمْرِئٍ مَا نَوَىٰ ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه في العتق باب الخطأ والنسيانِ في العتاقة والطلاق ونَحوه ، ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى , برقم ( ٢٥٢٩ ) ، فقال :
حدثنا مُحمد بن كثير ، عن سفيان ، حدثنا يَحيَى بن سعيد ، عن مُحمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقَّاص الليثي ، قال : سَمعتُ عمرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : «ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَلاِمْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه في مناقب الأنصار باب هجرةِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ إلى المدينة ، برقم ( ٣٨٩٨ ) ، فقال :
حدثنا مُسَدَّدٌ ، حدثنا حَماد هو ابن زيد ، عن يَحيَى ، عن مُحمد بن إبراهيم ، عن علقمةَ ﭐبْنِ وَقَّاصٍ قال : سَمعتُ عمرَ رضي الله عنه قال: سَمعتُ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرَاهُ يقُولُ : «ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم» .
كما أخرجه في النكاح باب من هاجر أو عمل خيراً لتزويج امرأة فله ما نوى ، برقم ( ٥٠٧٠ ) ، فقال :
حدثنا يَحيَى بنُ قَزَعَةَ ، حدثنا مالكٌ ، عن يَحيَى بنِ سعيد ، عن مُحمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ ، عن علقمة بن وقاصٍ ، عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قالَ : قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «ﭐلْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه في الأَيْمانِ والنذور باب النية في الأَيْمان ، برقم ( ٦٦٨٩ ) , فقال :
حدثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ ، حدثنا عبدُ الوهاب قال : سَمعتُ يَحيَى بنَ سعيدٍ يقولُ : أخبرني مُحمد بنُ إبراهيمَ ، أنَّه سَمعَ علقمةَ بنَ وقَّاصٍ الليثيَّ يقولُ : سَمعتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ رضي الله عنه يقولُ : سَمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه في الحيل بابٌ في ترك الحِيَلِ وأنَّ لكل امرئٍ ما نوى في الأَيْمانِ وغيرها ، برقم ( ٦٩٥٣ ) ، فقال :
حدثنا أبو النعمانِ(٥) ، حدثنا حَمَّاد بنُ زيدٍ , عن يَحيَى بنِ سعيد , عن مُحمدِ بنِ إبراهيمَ , عن علقمةَ بنِ وقَّاصٍ قالَ : سَمعتُ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رضي الله عنه يَخطُبُ قالَ : سَمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : «يَا أَيُّهَا ﭐلنَّاسُ إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ هَاجَرَ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه مسلم في صحيحه في الإمارة باب قوله صلى الله عليه وسلم إِنَّما الأعمال بالنية وأنَّه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال ، برقم ( ١٩٠٧ ) ، فقال :
حدثنا عبدُ الله بنُ مَسلَمَةَ بنُ قَعْنَبٍ ، حدثنا مالكٌ ، عن يَحيَى بنِ سعيدٍ ، عن مُحمدِ بنِ إبراهيمَ ، عن علقمةَ بنِ وقَّاصٍ ، عن عمرَ بنِ الخطَّابِ قالَ : قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
وفي الباب نفسه ، قال :
حدثنا مُحمدُ بنُ رُمْحِ بنِ الْمُهَاجِرِ ، أخبرنا الليث ، (ح) وحدثنا أبو الرَّبيعِ العَتَكِيُّ ، حدثنا حَمَّادُ بنُ زيد ، (ح) وحدثنا مُحمدُ بنُ المثَنَّىٰ ، حدثنا عبدُ الوهابِ ، ( يعني الثَّقَفِي ) ، (ح) وحدثنا إسحاقُ بنُ إبراهيمَ ، أخبرنا أبو خالدٍ الأحْمرُ سليمانُ بنُ حيَّانُ ، (ح) وحدثنا مُحمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ نُمَيْرٍ ، حدثنا حفصٌ ( يعني ابنَ غِياثٍ ) ، ويزيدُ بنُ هارونَ ، (ح) وحدثنا مُحمدُ بنُ العلاءِ الْهَمْدَانِيُّ ، حدثنا ابنُ المباركِ ، (ح) وحدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سُفيانُ ، كلُّهُم ؛ عن يَحيَى بنِ سعيدٍ ، بإسناد مالكٍ ومعنى حديثه ، وفي حديث سفيانَ سَمعتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ على المنبر ، يُخبِرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
كما أخرجه أبو داود في الطلاق بابٌ في ما عُنِيَ به الطلاق والنِّيَّات ، برقم ( ٢٢٠١ ) ، فقال :
حدثنا مُحمدُ بنُ كثيرٍ ، أخبرنا سفيانُ ، حدثني يَحيَى بن سعيد ، عن مُحمدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمي ، عن علقمةَ بنِ وقَّاصٍ الليثي ، قال : سَمعتُ عمرَ بنَ الخطَّاب يقولُ : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ ﭐمْرِئٍ مَا نَوَىٰ ، فِمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب ما جاء فيمن يقاتل رياءً وللدنيا ، برقم ( ١٦٤٧ ) ، فقال :
حدثنا مُحمدُ بنُ المثَنَّى ، حدثنا عبدُ الوهابِ الثَّقَفِي ، عن يَحيَى بنِ سعيد ، عن مُحمدِ بنِ إبراهيمَ ، عن علقمة َ بنِ وقَّاصٍ الليْثِي ، عن عمرَ بنِ الخطَّابِ قالَ : قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
قال أبو عيسى : « هذا حديث حسن صحيح » .
ثُمَّ قال : وقد روى مالكُ بنُ أنسٍ وسفيانُ الثوريُّ وغيرُ واحدٍ من الأئمةِ هذا عن يَحيَى بنِ سعيدٍ ، ولا نعرفه إلاَّ من حديث يَحيَى بنِ سعيدٍ الأنصاري . قال عبدُ الرحْمن بنُ مهديٍّ : ينبغي أن نَضَعَ هذا الحديث في كل باب .
كما أخرجه النسائي في الطهارة باب النية في الوضوء ، برقم ( ٧٥ ) ، فقال :
أخبرنا يَحيَى بنُ حبيبِ بنِ عَربِيٍّ ، عن حَمَّادٍ والحارثُ بنُ مسكينٍ قراءةً عليه وأنا أسْمعُ ، عنِ ابنِ القاسِمِ ، حدثَنِي مالكٌ ، (ح) وأخبرنا سُلَيْمَانُ بنُ منصورٍ ، قال : أنبأنا عبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ واللفظ له ، عن يَحيَى بنِ سعيدٍ ، عن مُحمدِ بنِ إبراهيمَ ، عن علقمة بنِ وقَّاصٍ ، عن عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه قال : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لإمْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه ابن ماجه في الزهد باب النية ، برقم ( ٤٢٢٧ ) ، فقال :
حدثنا أبو بكرِ بنُ أبي شيبةَ ، ثنا يزيدُ بنُ هارونَ ، (ح) وحدثنا مُحمدُ بنُ رُمْحٍ ، أنبأنا الليْثُ بنُ سعدٍ ، قالَا : أنبأنا يَحيَى بنُ سَعيدٍ ، أنَّ مُحمدَ بنَ إبراهيمَ التيمي أخبره ، أنَّه سَمعَ علقمةَ بنَ وقَّاصٍ ، أنَّه سَمعَ عمرَ بنَ الخطَّاب ، وهو يَخطبُ الناس ، فقال : سَمعتُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَلِكُلِّ ﭐمْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه مالك في الموطأ برواية الشيباني في باب النوادر ، برقم ( ٩٨٣ ) ، وقد وَهِمَ المبارك ابن الأثير حين نفى رواية مالك للحديث وذلك في جامعه ، حيث قال بعد أن ذكر الحديث : « أخرجه الجماعة إلاَّ الموطَّأ »(٦) ا.هـ .
وتبعه على هذا ابن حجر في الفتح فقال : « ثُمَّ إنَّ الحديث متفق على صحته ، أخرجه الأئمة المشهورون إلاَّ الموطأ ، ووهم من زعم أنَّه في الموطأ »(٧) ا.هـ
فقال مالك رحِمه الله :
أخبرنا يَحيَى بنُ سعيدٍ ، أخبرني مُحمدُ بنُ إبراهيمَ التَّيْمِيُّ ، قال : سَمعت علقمةَ بنَ وَقَّاصٍ يقول : سَمعتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ يقول : سَمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إِنَّمَا ﭐلأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ﭐللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ ﭐمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
كما أخرجه الطيالسي في مسنده من طريق حَمَّاد بن زيد عن يَحيَى بن سعيد .
راوي الحديث :
هو أمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين أبو حفص عمرُ بنُ الخطَّابِ بن نُفَيْلِ بن عَبْدِ العُزَّى بن رِيَاحِ بن عَبْدِ اللَّهِ بن قُرْط بن رَزاح بن عَدِيِّ بن كَعْبِ بن لُؤَيّ بن غَالِب القُرَشِي العدوي .
يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بنِ لؤي . أسلم بِمكة قديِماً ، وكان إسلامه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة ، سنة ستٍ من البعثة ، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد بدراً ، والمشاهد كُلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وولي الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه عشر سنين وخَمسة أشهر ، وقيل : ستة أشهر . وقتل يوم الأربعاء لأربعٍ بقين من ذي الحجة ، وقيل لثلاثٍ بقين منه سنة ثلاث وعشرين ، وهو ابن ثلاث وستين سنة في سن النبي صلى الله عليه وسلم وسن أبي بكر رضي الله عنه ، وقد قِيل في سِنّه غير ذلك ، وهذا هو الأصح . ودُفِنَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه في حجرة عائشة رضي الله عنها ، وصلى عليه صهيب بن سنان رضي الله عنه .
موضوع الحديث :
الأعمال بالنيات .
المفردات :
قوله «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ» : إنَّما تفيد الحصر ، والأعمال مُحلى بالألف واللام وهو للاستغراق .
قوله «بالنِّيَاتِ» : الباء للمصاحبة ، والنيات جَمع نية وهي لغة : القصد المقترن بالفعل ؛ وشرعاً : العزم على فعل الشيء قصداً . أي كل عمل بنيته ، فلا عمل إلاَّ بنية . ومَحلها القلب .
قوله «وَإِنَّمَا لِكُلِّ ٱمْرِئٍ مَا نَوَىٰ» : كلّ من أدوات العموم . وٱمرئ تشمل كل ذكر وأنثى من المكلفين وإنَّما ذكر كلمة ( ٱمرئ ) من باب التغليب .
و«الهجرة» : اسم للهجر والهجران ومعناه لغة المفارقة والصرم الذي هو ضد الوصل ، وكذلك المهاجرة من أرض إلى أرض يعني ترك الأولى للثانية ، وشرعاً : الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام .
قوله «لدنيا يصيبها» : أي ينالُها . والمراد بالدنيا هنا حطامها ومتاعها الزائل .
قوله «أو امرأة ينكحها» : أي يتزوجها .
المعنى الإجْمالي :
هذا حديث جليل القدر ؛ ولا شَكَّ أنَّه حديثٌ مهم ، حتى أنَّ بعض علماء السلف رحِمهم الله قالوا : «ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم» .
وقد تقدَّمَ معنا عند الترمذي رحِمه الله أنَّ هذا الكلام لعبدِ الرحْمن بن مهدي .
وهو يعتبر من الأفراد مع كثرة طرقه ، وليس بِمتواتر لفقده لشرط التواتر , وهو فردٌ غريبٌ باعتبار ؛ ومشهور باعتبار آخر , فهو غريبٌ بالنسبة إلى أوله ومشهور بالنسبة إلى آخره ، وهو لا يصح إلاَّ من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم سواه ، وعن عمر لَم يروه غير علقمة ، وعن علقمة لَم يروه إلاَّ مُحمد بن إبراهيم التيمي ، وعن مُحمد بن إبراهيم لَم يروه إلاَّ يَحيى بن سعيد الأنصاري .
وقد يُحمل هذا الحديث على أنَّه من قبيل المتواتر المعنوي ، وإلاَّ فالأصل أنَّه حديث غريب ولَم يُعرف تواتره إلاَّ عن يَحيى بن سعيد .
ولَمَّا كان هذا الحديث في الإخلاص لله تعالى وأنَّه ينبغي أن تكون النية المخلصة لله تعالى في كل وقت وحين وعلى كل حال في القول والعمل ؛ كان أحد أربعة أحاديث التي عليها مدار الإسلام .
وهي هذا الحديث «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ» ، وحديث «ٱلحلال بيِّن وٱلحرام بيِّن» ، وحديث «إنَّ ٱلله تَعَالَىٰ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً» ، وحديث «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ ٱلْمَرْأِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» .
قال أبو داود رحِمه الله : «نظرت في الحديث المسند ، فإذا هو أربعة آلاف حديث ، ثُمَّ نظرت فإذا مدار أربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث» ، ثُمَّ ذكرها وقال : «فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم» . ذكر هذا الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم .
وقال الإمام أحْمد رحِمه الله : «أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر : «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِٱلنِّيَاتِ» ، وحديث عائشة : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَـٰذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، وحديث النعمان بن بشير : «ٱلْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَٱلْحَرَامُ بَيِّنٌ» . وقال الحاكم : «حدثونا عن عبد الله بن أحْمد ، عن أبيه أنَّه ذكر قوله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِٱلنِّيَاتِ» ، وقوله : «إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ لَيُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً» ، وقوله : «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، فقال : ينبغي أن يبدأ بِهذه الأحاديث في كل تصنيف فإنَّها أصول الحديث . وروى عثمان بن سعيد عن أبي عبيد قال : «جَمع النبي صلى الله عليه وسلم جَميع أمر الآخرة في كلمة واحدة : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، وجَمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة: «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِٱلنِّيَاتِ» ، يدخلان في كل باب» ا.هـ
وقال الحافظ ابن حجر رحِمه الله تعالى : «وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث : قال أبو عبد الله ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجْمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث . واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحْمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحَمزة الكناني على أنَّه ثلث الإسلام . ومنهم من قال ربعه ، واختلفوا في تعيين الباقي» ا.هـ
وقد نظم طاهر ابن مُفَوَّزٍ :
عُمْدَةُ ٱلدِّينِ عِنْدَنَا كَلِمَاتُ
|
أَرْبَعٌ مِنْ كَلاَمِ خَيْرِ ٱلْبَرِيَّة
| |
ٱتَّقِ ٱلشُّبُهَاتِ وَٱزْهَدْ وَدَعْ مَا
| لَيْسَ يَعْنِيكَ وَٱعْمَلَنَّ بِنِيَّة
|
وأمَّا ابن حجرٍ رحِمه الله فقد أوردها في الفتح بلفظ :
عُــمْـدَةُ ٱلـدِّيـنِ عِــنْـدَنَا كَلِمَاتُ
|
مُسْتَنَدَاتٌ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ ٱلْبَرِيَّة
| |
أِتْرُكِ ٱلْمُشَبَّهَاتِ وَٱزْهَدْوَدَعْ مَا
|
لَيْسَ يَعْـنِيكَ وَٱعْـمَلَـنَّ بِنِـيَّـــة
|
ولا شك أنَّ النية جانب مهم في كل الأعمال والأقوال فإنَّها أحد الأمرين اللذين ينبني عليهما صلاح الأعمال وقَبولُها .
ففي هذا الحديث بيَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ جَميع الأعمال مبناها على النيات ، فإذا صلحت النية صلح العمل ، وإذا فسدت النية فسد العمل ورُدَّ على صاحبه .
فالمسلم مُحتاج إلى معالَجة نيته بإصلاحها وإخلاصها لله تبارك وتعالى ، كما أنَّ إخلاصها يَحتاج مُجاهدة للنفس لكون النفس أمارة بالسوء .
وقد قال الفضل بن زياد : «سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن النية في العمل ، قلت : كيف النية ؟ قال : يعالِج نفسه إذا أراد عملاً لا يريد به الناس» ا.هـ
فقوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِٱلنِّيَاتِ» يعني إنَّما كون وقوع الأعمال صحيحة أو مقبولة مرده إلى النيات ، فإن صحت صح العمل ، وإن فسدت فسد العمل .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم هذا ؛ مَحذوف اختلف العلماء في تقديره ، فالذين اشترطوا النية ؛ قدَّروا صحة الأعمال بالنيات ، والذين لَم يشترطوها قدَّروا كمال الأعمال بالنيات ، ذكر هذا ابن دقيق العيد رحِمه الله في شرحه على الأربعين النووية . وأمَّا مذهب الحنفية فهو أنَّ في الحديث إجْمال ولا يستقى منه معنى وهذا غير صحيح . والراجح هو الأول لدلالة اللفظ وهو كون صحة الأعمال بالنيات ، ولكون صحتها شرط من شَرْطَيْ قَبُولِ العمل ؛ والله أعلم .
ولفظة «إنَّما» تفيد الحصر والقصر ، ولكنَّها بِحسب المقام ؛ فقد تفيد حصراً عامّاً مطلقاً ، أو قد تفيد حصراً مَخصوصاً يناسب المقام ، فمثلاً قول الله تعالى : )إنَّمَآ أَنتَ مُنْذِرٌ((٨) ، فظاهر الآية حصر وصف النبي صلى الله عليه وسلم في النذارة ، ونَحن نعلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَم ينحصر وصفه في النذارة فحسب ، بل إنَّه صلى الله عليه وسلم نُبِئَ بـ)ﭐقْرَأْ( وأرسل بـ)ﭐلْمُدَّثِّرُ( ، ووصف بأوصاف كثيرة وأرسل بِمهام عظيمة كما جاء في وصفه الكثير ، فقال عن نفسه صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَﭐللَّهُ يُعْطِي»(٩). وقال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ ٱلأَخْلاَقِ»(١٠) .
وقال تعالى: ]يَٰٓأَيُّهَا ﭐلنَّبِيُّ إنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ شَٰهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَىٰ ﭐللَّهِ بِإذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (٤٦)[ (١١) ، فدلت الآية على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَم يَنْحَصِر وصفه في هذا المقام في النذارة فقط ؛ كما أفادت الآية السابقة .
إذن ؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِٱلنِّيَاتِ» أفادت «إِنَّمَا» حصراً عامّاً شاملاً لِجميع الأعمال الشرعية ، بلا استثناء ؛ سواء أعمال القلب أو اللسان أو الجوارح ، وسواء ما كان منها فرضاً أو ما كان نفلاً ؛ إلاَّ ما دلَّ الدليل على عدم اشتراط تبييت النية له .
أمَّا قوله صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا لِكُلِّ ٱمْرِئٍ مَا نَوَىٰ» فإنَّه يفيد معنى خاصاً غير الأول ، فالأول الذي هو ربط العمل بالنية . فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مَا نَوَىٰ» هو إنَّما يثاب المرؤ على العمل بِحسب نيته . فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل ، والثانية يقصد بِها الثواب على العمل .
إذن ؛ ففائدة ذكره هو أنَّ تعيين المنوي شرط في صحة العمل ، فلو فرضنا أنَّه كان على إنسان صلاة متأخرة ، فإنَّه لا يكفيه فيها أن ينوي قضاءها ؛ بل لاَ بُدَّ - وهذا شرط - أن ينوي كونَها ظهراً أم عصراً أم غيرها وهكذا .
ونقل ابن دقيق العيد رحِمه الله عن النووي قوله : «لولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك والله أعلم» ا.هـ
وأمَّا القرطبي فقال : «فيه تَحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال ، فجنح إلى أنَّها مؤكدة» ا.هـ
والصحيح الأول .
ثُمَّ ذكر صلى الله عليه وسلم مثالين على اختلاف النيات بِحسب مراد العبد من العمل الذي يعمله ، فذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ من كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً ؛ أي ثواباً وأجراً ، فقال صلى الله عليه وسلم : «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ ٱللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ ٱللهِ وَرَسُولِهِ » .
وقيل إنَّ سبب ذكر الهجرة كمثال على الأعمال والنيات كما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح عن ابن دقيق العيد أنَّهم نقلوا أنَّ رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة ليتزوج امرأة يقال لَها «أم قيس» لا يريد بذلك العمل فضيلة الهجرة فكان يقال له «مهاجر أم قيس» والله أعلم .
ثُمَّ ذكر تَخريج سعيد بن منصور والطبراني لقصة مهاجر أم قيس ، ثُمَّ قال : «وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه أنَّ حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ، ولَم أرَ في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك» ا.هـ
لذا فمن كانت نيته لغير الله سواء في الهجرة أو في غيرها من سائر الأعمال فإنَّ عمله حكماً وشرعاً باطل فاسد ، فذكر صلى الله عليه وسلم مثالاً على هذا فقال : «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ ٱمْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» ، يعني أنَّ من كانت هجرته لأمر غير الله عز وجل - وضرب مثلاً بالدنيا والمرأة لأنَّهما من أهم الأمور التي يسعى لَها كثير من أهل الدنيا - فقد رتب النتيجة الطبيعية على هذه النية الفاسدة أنَّ هجرته إلى ما هاجر إليه ، ولَم يذكرهُما كنتيجة لِهذه النية الفاسدة تَحقيراً لَهما واستصغاراً لشأنِهما في مقابل الهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فقه الحديث :
أولاً : عِظَمُ هَذَا الحديث في كونه أحد مدارات الإسلام .
ثانياً : أنَّ المقصود بالأعمال في الحديث ؛ جَميع أعمال القلب ، وأعمال النطق ، وأعمال الجوارح ، فرضها ونفلها .
ثالثاً : بيان تفاوت ثواب الناس على أعمالِهم الشرعية حسب تفاوتِهم في النيات .
رابعاً : بيان أهمية النية في العمل الشرعي ، ووجوب الإخلاص فيه لله تبارك وتعالى .
خامساً : أنَّ هذا الحديث احتج الأئمة به في وجوب النية للوضوء والغسل ، فقالوا : التقدير فيه صحة الأعمال بالنيات ، والألف واللام لاستغراق الجنس ، فيدخل فيه جَميع الأعمال من الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج ؛ وغير ذلك مِمَّا يتطلب فيه النية عملاً بالعموم .
سادساً : أنَّ النية إذا قارنت الكناية في الطلاق والعتاق كانت كالصريح ، لتعلُّق الحق بالغير .
سابعاً : قوله «إنَّما الأعمال بالنيات» ليس المراد به عين العمل ، لأنَّه قد يقع حساً وعياناً من غير نية ، إنَّما مراده أنَّ صحة أحكام الأعمال في جانب الدين يَحصل بالنية .
ثامناً : جهل كثير من الناس بِمقدار هذا الحديث وما دَلَّ عليه ، وهو أنَّه عندما يصدر منهم قول أو عملٌ ظاهر القبح والسوء من غير جهل ولا إكراه ثُمَّ يعتذرون بصفاء نياتِهم وما شابه هذا ؛ فإنَّ هذا لا يصح مِمَّن تعمَّدَ الإثْم والسوء ، وهذا لا يكون - أي الاعتذار بِحسن النية - إلاَّ في الأعمال المحتملة ؛ وعلمها عند الله )يَعۡلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعۡيُنِ وَمَا تُخۡفِي ٱلصُّدُورُ( (١٢) ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الشهير لِمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال : «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَٰلِكَ كُلِّهِ ؟ ، قُلْتُ : بَلَىٰ يَا رَسُولَ ٱللهِ ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ ثُمَّ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ هَـٰذَا ، فَقَالَ مُعَاذٌ رضي الله عنه : أَوَ نَحْنُ مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ يَا رَسُولَ ٱللَّهِ ؟ ، فَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذٌ ؛ وَهَلْ يَكُبُّ ٱلنَّاسَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ مَنَاخِرِهِمْ - أَوْ قَالَ عَلَى وُجُوهِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» .
ولَم يُعَقِّب صلى الله عليه وسلم على النيات مع حصائد اللسان القبيحة الصريِحة ومثلها كذلك الصريح من الأعمال السيئة .
تاسعاً : أنَّ النية هي الفاصل بين ما يصح من الأعمال وما لا يصح .
عاشراً : دَلَّتْ كلمة «إنَّما» في الحديث أنَّ العبادات إذا لازمتها النية صحتْ ، وإذا فارقتها لَم تصح ، لإفادتِها الحصر .
الحادي عشر : يُحملُ معنى النيات على القصد ؛ سواء كان إخلاصاً أو رياءً .
الثاني عشر : أنَّ الأصل في الكلام أنْ يكون تأسيساً لا تأكيداً . بِمعنى أنَّ جُملة «وإنَّما لكلِّ ٱمرئ ما نوى» مستقلة عن الجملة التي سبقتها من الكلام ، ومعناه أنَّ كلَّ واحدٍ مُحاسبٌ على حسبِ نيته ، إنْ كانت خيراً فخيراً ، وإنْ كانت شراً فشراً ؛ من حيث الثواب والعقاب .
الثالث عشر : ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومُحمد وزفر والنووي والأوزاعي والحسن بن حي ومالك في رواية ؛ إلى أنَّ الوضوء لا يَحتاج إلى نية ، وكذلك الغسل .
وذهب عطاء ومُجاهد إلى أنَّ صيام رمضان لا يَحتاج إلى نية إلاَّ أن يكون مسافراً أو مريضاً ، لكونِهم قدروا كمال الأعمال بالنيات ، واستثناءاتُهم هذه مردودة عليهم ؛ إذ لا دليل عليها ، وعموم الحديث حجة عليهم .
أمَّا عطاء ومُجاهد فيما يَخُصُّ تبييت النيَّة لصيام رمضان فكأنَّهم لَم يتنبهوا لقوله تبارك وتعالى : )فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُ((١٣) ؛ وهو أمرٌ منه تبارك وتعالى يقتضي التعيين والوجوب على الصحيح القادر المقيم ، والأمر الواجب يلزم في عمله النية ، ولَم يُسْتَثْنَ من النية في الصيام إلاَّ النافلة لورود التوقيف بِهذا من فعل المعصوم صلى الله عليه وسلم .
الرابع عشر : أنَّ صوم شهر رمضان تكفي فيه النية من أوَّل الشهر إلى آخره ، وإن انقطع الصيَام بسفر أو مرض أو نفاس أو حيض ؛ أو أيَّ عذرٍ مبيحٍ للفطر استأنفَ النية من جديد .
واحتجَّ مالكٌ في اكتفائه بنية واحدة في أول الشهر - وهو رواية عن أحْمد - بِهذا الحديث .
وقال أبو حنيفة والشافعي وأحْمد في رواية عنه أنَّه لا بُدَّ من النية لكلِّ يوم ، لأنَّ صوم كلِّ يوم عبادةٌ مستقلَّةٌ بذاتِها فلا يُكتَفَى بنية واحدة ، وهذا قولٌ مرجوحٌ بالأول .
الخامس عشر : احتَجَّ به طائفةٌ من الشافعية في اشتراط النية لسائر أركان الحجِّ من الطواف والسعي والوقوف ، وهذا مردود ؛ لأنَّ نية الإحرام شاملة لِهذه الأركان فلا تَحتاج إلى نية أخرى ؛ كأركان الصلاة .
هذا وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه فقير عفو ربه
أبو حمود هادي محجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) [ آل عمران : ٥٥ ] .
(٢) [ الأحزاب : ٣٣ ] .
(٣) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام ( ١ / ١٣٦ ) .
(٤) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، قال الترمذي : «هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن» .
(٥) هو محمد بن الفضل السدوسي ، المشهور بعارم البصري .
(٦) جامع الأصول لابن الأثير ( ١١ / ٥٥٥ ) .
(٧) فتح الباري ( ١ / ٣٣ ) .
(٨) [ الرعد : ٧ ] .
(٩) جزء من حديث : «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» أخرجه البخاري في العلم باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين .
(١٠) قال الهيثمي في مجمع الزوائد ( ١٨ / ٩ ) : «رجاله رجال الصحيح غير محمد بن رزق الله الكلوذاني وهو ثقة» . كما صححه الزرقاني في مختصر المقاصد . وصححه الألباني في الصحيحة . وقال ابن باز في مجموع الفتاوى إسناده جيد .
(١١) [ الأحزاب : ٤٥ - ٤٦ ] .
(١٢) [ غافر : ١٩ ] .
(١٣) [ البقرة : ١٨٥ ] .
| روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
| URL | |
| HTML | |
| BBCode | |














0 التعليقات: