مكتبة أبي حمود العلمية

سلسلة سنن السلام .. الحلقة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
    فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أكرمنا بهذا الدين الذي أكمله لنا ورضيه لنا وجعله خاتم الأديان وأكملها وجعل في شرائعه ما يميزنا به عن غيرنا من الأمم السابقة من وضع الأغلال والآصار التي كانت عليهم وجعله دين رحمة ومودة وهدى . ومما شرع لنا في الدين التحية التي هي مشتقة من اسمه ومن خصائصه ( السلام ) .
    فالسلام هو اسم من أسماء الله تبارك وتعالى ، وهو دعاء بالسلامة لمن تحييه به ، وله سنن وآداب ينبغي مراعاتها ، أستعرضها في هذه السلسلة التي ستأتي على حلقتين - إن شاء الله تبارك وتعالى - نبدأها مع الحلقة الأولى .

    فمن سنن السلام :

    أولاً : إلقاء السلام :
    والأدلة على هذا كثيرة ، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه ؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ حقُّ المسلم على المسلم ستٌّ . قيل ما هُنَّ يا رسول الله ؟ ، قال : إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطِسَ فحمدَ اللهَ فشَمِّتْهُ ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه ](1) .
    ومن الأدلة كذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعل الصحابة رضي الله عنهم . كل هذا دال على سنية إلقاء السلام .
    وأما رده فهو واجب ؛ والدليل على وجوبه قوله تبارك وتعالى : {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٖ فَحَيُّواْ بِأَحۡسَنَ مِنۡهَآ أَوۡ رُدُّوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَسِيبًا ٨٦}(2) ، وقد أجمع الأصوليون على أن الأمر يقتضي الوجوب ، ما لم يصرفه صارف إلى الندب ، ولا صارف هنا .
    وقد حكى الإجماعَ على وجوب رد السلام غير واحد من أهل العلم ؛ كابن حزم وابن عبد البر والشيخ تقي الدين وغيرهم(3) .

    ثانياً : ما أفضل لفظ للسلام ؟ .
    أفضل لفظ للسلام ورده ؛ بل وأكمله ، الانتهاء إلى ( بركاته ) ، وهذا محل اتفاق عند جميع المسلمين ، فيقول : ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) ، فهذه أحسن تحية وأكملها .
        قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وكان هديه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - انتهاء السلام إلى : ( وبركاته )(4) .
    وذكر ابن عبد البر عن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - قولهما : انتهى السلام إلى البركة ، كما ذكر الله - عز وجل - عن صالح عباده : {رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ ٧٣ } (5) ، وكانا يكرهان أن يزيد أحدٌ في السلام على قوله : ( وبركاته )(6) . وبناء على هذا فإنَّه لا تثبت زيادة ( ومغفرته ) في السلام .
    قال ابن القيم - رحمه الله - : ( وذكره ابن أبو داود من حديث معاذ ابن أنس - رضي الله عنه - ، وزاد فيه : ( ثم آخرٌ فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ، فقال : ( أربعون ) فقال : هكذا تكون الفضائل . ولا يثبت هذا الحديث فإنَّ له ثلاث علل )(7) .

    ثالثاً : إفشاء السلام :
    سنة مُرَغَّبٌ فيها ورُتِّبَ عليها فضلٌ كثيرٌ ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أَوَلَا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أَفْشُوا السلام بينكم ] (8) .

    رابعاً : استحباب تكرار السلام ثلاثاً ؛ إن دعت الحاجة إلى ذلك :
    ففي حال شكَّ أنَّ المُسَلَّمَ عليه لم يسمع سلامه أولَ مرة ؛ اسْتُحِبَّ له أن يكرر السلام مرتين ، فإن لم يسمع فثلاثاً . أو إن دخل مجلساً كبيراً به جمع من الناس فسلَّمَ عند دخوله ولم يسمعه إلَّا من كان في طرف المجلس فيحتاج إلى أن يُسَلِّمَ ثلاثاً ، من أجل أن يعمَّ كل من في المجلس .
    ويدلُّ عليه حديث أنس رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنَّه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ؛ حتى تفهم عنه ، وإذا أتى على قومٍ فسلَّمَ عليهم ، سَلَّمَ عليهم ثلاثاً ] (9) .
    قال ابن حجر - حمه الله - : ( وأنَّ السلام وحده قد يشرعُ تكراره إذا كان الجمع كثيراً ، ولم يسمع بعضهم وقصد الاستيعاب ، وبهذا جزم النووي في معنى حديث أنس - رضي الله عنه - ، وكذا لو سَلَّمَ وظنَّ أنَّه لم يُسْمَع ، فتُسَنُّ الإعادة ، فيعيد مرة ثانية ، وثالثة ، ولا يزيد على الثالثة ) (10) .
    ويؤخذ من حديث أنس - رضي الله عنه - السابق ؛ سُنِّيَّة إعادة الكلمة ثلاثاً إذا دعت الحاجة للتكرار ، كأن يتكلم ولا تفهم عنه كلمة ؛ فيُسَنُّ أن يُكرِّرَها ، فإن لم تُفهَم كرَّرَها الثالثة .
    جاء عن ابن عثيمين - رحمه الله - في شرح رياض الصالحين : ( لكنه يتكلَّمُ ثلاثاً إذا لم تُفهَم الكلمة عنه ، أمَّا إذا فُهِمَت فلا يكرر ، لكن لو لم تُفهَم ؛ لكون المخاطب ثقيل السمع ، أو لكثرة الضجة حوله ، أو ما أشبه ذلك ؛ فَلْيُعِدْ مرتين ، فإن لم تَكْفِ فثلاث ) (11) .

    خامساً : تعميم السلام على من عرفت : ومن لم تعرف :
    لحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - : [ أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإسلام خيرٌ ؟ قال : ( تُطعِمُ الطعام ، وتَقرَأُ السلام على من عرفت ، ومن لم تعرف) ] (12) .
    وإمَّا إفشاء السلام على الخاصة الذين تعرفهم فقط فهذا خلاف السنة وهو من علامات الساعة ، وذلك لحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند أحمد وصححه الألباني - رحمه الله - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : [ إنَّ من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة ] (13) ، وفي رواية : (إنَّ من أشراط الساعة : أن يُسَلِّمَ الرجلُ على الرجلِ لا يُسَلِّمُ عليه إلَّا للمعرفة ] (14) ، وفي رواية : [ بين يدي الساعة تسليم الخاصة ] (15) .

    سادساً : ابتداء السلام ممن جاءت السنة بابتدائه :
    كسلام الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد والقليل على الكثير ، والصغير على الكبير ، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ يُسَلِّمُ الراكبُ على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير ] (16) .
    وفي رواية للبخاري : [ يُسَلِّمُ الصغير على الكبير ، والمَارُّ على القاعد ، والقليل على الكثير ] (17) .
    ولا بأس في مخالفة هذا وإن كان خلاف الأولى ؛ كأن يسلم كبيرٌ على صغيرٍ ، أو ماشٍ على راكبٍ ، وهكذا .

    سابعاً : إذا تكافأ الوصفان فمن يبدؤ بالسلام ؟ :
    إذا تكافأ الوصفان كراكب وراكب أو كانوا جماعتان متكافأتان في العدد فالحق مشترك في هذه الحالة ولكن تبقى الخيرية للسابق منهما بالسلام ، كما في حديث أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال : [ لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوق ثلاث ليال ، يلتقيان فيعرِضُ هذا ويُعْرِضُ هذا ، وخَيْرُهُما الذي يبدأ بالسلام ] (18) .

    ثامناً : من السنة السلام على الصبيان :
    وفي السلام على الصبيان حَمْلٌ للنفس على التواضع ، وتعويد للصبيان على هذه الشعيرة ، وإحياؤها في نفوسهم .
    فعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - : [ أنَّه كان يمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمَرَّ بصِبْيانٍ فسَلَّمَ عليهم ] (19) .

    إلى هنا تكون الحلقة الأولى من سلسلة سنن السلام قد انتهت ، آملين اللقاء بكم قريباً مع الحلقة الثانية من هذه السلسلة إن شاء الله تبارك وتعالى . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

انتهى من تحريره أخوكم
أبو حمود هادي محجب

بعد ظهر يوم السبت الموافق العشرين من شهر رجب
لعام ستة وثلاثين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم برقم (2162) .
(2) [ النساء : 86 ] .
(3) الآداب الشرعية ( 1 / 356 ) ، ط مؤسسة الرسالة .
(4) زاد المعاد ( 2 / 417 ) .
(5) [ هود : 73 ] .
(6) التمهيد ( 5 / 293 ) .
(7) زاد المعاد ( 2 / 417 ) .
(8) رواه مسلم برقم ( 54 ) .
(9) رواه البخاري برقم ( 95 ) .
(10) فتح الباري ( ) .
(11) شرح رياض الصالحين ( 2 / 1146 ) .
(12) رواه البخاري برقم ( 12 ) ، ومسلم برقم ( 39 ) .
(13) رواه أحمد برقم ( 3664 ) .
(14) المصدر السابق برقم ( 3848 ) .
(15) المصدر السابق برقم ( 3870 ) .
(16) رواه البخاري برقم ( 6233 ) ، ومسلم برقم ( 2160 ) .
(17) رواه البخاري برقم ( 6234 ) .
(18) رواه البخاري برقم ( 6077 ) ، ومسلم برقم ( 2560 ) .
(19) رواه البخاري برقم ( 6247 ) ، ومسلم برقم ( 2168 ) .
روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode

0 التعليقات:

المقالات

   البلاغة العربية نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة والعربية    همسة في صماخ الأستاذ علي حملي    إشباع النهم ببيان أقسام تعلق الكلم    الشيخ محمد أيوب رحمه الله سيرة وعطاء    التوحيد هو أعظم الأمور وأهمها    البيان والارتجال في الخطابة والوعظ والمقال    العلم الشرعي وأثره في حياة سلفنا الصالح    الأخوة الإيمانية عند حسام العدني    دولة فاحش والحرب على الإسلام بالوكالة وتفجيرات باريس


Flag Counter

التصفح المباشر

مواقع سلفية

   مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية