وأن تصبروا خيرٌ لكم ..

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله ؛ نحمده
ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسئيات أعمالنا ، من يهده الله
فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً
عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً كثيراً .
[ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ ](1) ، [ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ
رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا
وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي
تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١ ](2) ، [ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ ءَاذَوۡاْ مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ ٱللَّهُ
مِمَّا قَالُواْۚ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهٗا ٦٩ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ
أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ
فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا ٧١ ](3) ، أما بعد :
فإنَّ أصدقَ الحديث كتاب الله ،
وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ،
وشرَّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثة بدعة ، وكلَّ بدعة ضلالة ، وكلَّ ضلالة في
النار .
وقد لوحظ هذه الأيام أنه قد كثر الكلام عن
الزواج بين إخوة غالبيتهم لا يستطيعون طولاً ولا باءة ، فلا هم تزوجوا حرة مؤمنة ،
ولا وجدوا أمة محصنة مؤمنة ، ولا هم صبروا أو صاموا ، وهذا خلاف التوجيه الرباني
الكريم والإرشاد النبوي العظيم .
وكان الأولى بهم أن يجتمعوا على علم شرعي
يتذاكرونه بينهم ، وأن يكثروا من مذاكرة العلم الشرعي ، فإنَّ الإجتماع على
مذاكرته خير لهم . وترك الخوض في كثير من المباحات دأب السلف الصالح رضي الله عنهم .
فإني أذكر كلَّ أخٍ لا يستطيع طولاً ولا باءة
بقول الله تبارك وتعالى : [ وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ
ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ
ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ
فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ
مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ
بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ
ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ
وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٥ ](4) .
قال الشيخ
عبد الرحمن السعدي رحمه الله : [ أي : ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر – قلت
والقائل أبو حمود عفا الله عنه : والطول هو الغنى والسعة والجدة - لنكاح المحصنات
، أي : الحرائر المؤمنات ، وخاف على نفسه العنت ، أي : الزنا أو المشقة الكثيرة ،
فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات . وهذا بحسب ما يظهر ، وإلا فالله أعلم
بالمؤمن الصادق من غيره ، فأمور الدنيا مبنية على ظواهر الأمور ، وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن .
[ فَٱنكِحُوهُنَّ ] أي
: المملوكات [ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ ]
أي : سيدهنَّ ، واحداً ، أو متعدداً .
[ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ ] أي : ولو كنَّ إماءً ، فإنَّه
كما يجب المهر للحرة ، فكذلك يجب للأمة .
ولكن لا يجوز نكاح الإماء إلَّا إذا كنَّ [ مُحۡصَنَٰتٍ ]
أي : عفيفات عن الزنا ، [ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰت ] أي : زانيات علانية ، [ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَان ] أي : أخلاء في السر .
فالحاصل أنه لا يجوز للحر المسلم نكاح أمة
إلا بأربعة شروط ذكرها الله : الإيمان بهنَّ - قلت والقائل أبو حمود عفا الله عنه
: مراد الشيخ السعدي رحمه الله أي فيهنَّ بأن يكنَّ مؤمنات بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره - ، والعفة ظاهراً وباطناً ، وعدم استطاعة
طول الحرة ، وخوف العنت ، فإذا تمت هذه الشروط
جاز له نكاحهنَّ .
ومع هذا فالصبر عن نكاحهنَّ - قلت والقائل
أبو حمود عفا الله عنه : أي عن نكاح المملوكات - أفضل ، لما فيه من تعريض الأولاد
للرقَّ ، ولما فيه من الدناءة والعيب .
وهذا
إذا أمكن الصبر ، فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلَّا بنكاحهنَّ وجب ذلك ، ولهذا
قال : [ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٥ ](5) ا.هـ .
قلت – والقائل أبو حمود عفا الله عنه - :
ولتتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم :
[ يا معشر الشباب ؛ من استطاع الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فهو له وجاء ](6) .
وهذا توجيه نبوي كريم لمعشر الشباب من الأمة
؛ لمن استطاع الباءة ؛ فما المراد بالباءة ؟ .
قد يظن البعض
أنَّ المراد بها القدرة الجنسية فقط حسب المتبادر لبعض الأذهان ، والصواب في هذا
أنَّ الباءة فسرها أهل العلم من المحدثين على معنيين ، كلاهما عندي يشملهما معنى
الباءة في الحديث .
فقد قال الخطابي : المراد بالباءة النكاح ،
وأصله الموضع يتبوؤه ويأوي إليه . وقال النووي : اختلف العلماء في المراد بالباءة
هنا على قولين يرجعان
إلى معنى واحد أصحهما : أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع ، فتقديره من استطاع
منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤنة النكاح فليتزوج ، ومن لم يستطع الجماع لعجزه
عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء .
قلت – والقائل أبو حمود عفا الله عنه –
والوجؤ في اللغة هو دقُّ عروق خصيتي الفحل بين حجرين أو رضِّهما حتى ينفضخا ، فلا يستطيع بعدها النزو على الإناث . ومن هنا شبه النبي صلى الله عليه وسلم الصوم
بالوجاء لمعشر الشباب لقطعه شهوتهم وتخفيفها وإضعافها .
قال النووي : والقول الثاني : إن المراد
بالباءة مؤنة النكاح سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤنة النكاح
فليتزوج ، ومن لم يستطع فليصم ، قالوا : والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصوم
لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن .
وقال القاضي عياض : لا يبعد أن تختلف
الاستطاعتان فيكون المراد بقوله من استطاع الباءة أي بلغ الجماع وقدر عليه فليتزوج
، ويكون قوله : ومن لم يستطع - أي لم يقدر على التزويج وقيل الباءة بالمد القدرة
على مؤن النكاح وبالقصر الوطء(7) .
وقوله صلى الله عليه وسلم :
[ فإنَّه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ]
: تقديم غض البصر على إحصان الفرج فيه تنبيه على أهم سبب يكون مهيجاً للشهوة
المتوقدة التي قد تودي بالفرج إلى ما حرم الله تعالى من مواقعة الشاب لفرج لا يحل
له عياذا بالله ، لأنَّ النظر إلى ما حرم الله فيه تهييج للشهوة ، كالنظر إلى
امرأة لا تحل له أو ليست من محارمه . أو إدامة النظر إلى صور النساء الكاسيات
العاريات أو حتى السافرات عن وجوههنَّ لأنَّ الوجه لا شكَّ أنَّه محل الفتنة قبل
الجسد .
ولابد من
مداومة الصوم ، فقد لا يحصل المراد به من كسر الشهوة
وإضعافها إلَّا بعد مدة من متابعة الصوم ومداومته .
قال الحافظ – رحمه الله - : [ قوله
: فعليه بالصَّوم فإنَّه له وِجَاءٌ ، مقتضاه أنَّ الصَّوم قامعٌ لشهوة النكاح ،
واسْتُشْكِلَ بأنَّ الصَّوم يزيد في تهييج الحرارة وذلك ممَّا يُثير الشَّهوة ،
لكنَّ ذلك إنَّما يقع في مبدأ الأمر فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك ، والله أعلم ](8) ا.هـ
وقد يكثر كثيرٌ من الشباب من الصوم ولكن لا
يجدون أثراً للصوم على شهوتهم ، ومردُّ ذلك إلى عدم خلو صومهم من الموانع التي تحول
دون تخفيف الشهوة .
فمنها قوة الشهوة لدى كثير من الشباب ، وخاصة
تلك التي لا يلجمها صاحبها بلجام التقوى وخشية الله تبارك وتعالى .
ومنها عدم الصبر
عن معصية الله تبارك وتعالى ، لقوله تعالى : [ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ
لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٥ ] .
ومنها النظر إلى المحرمات من النساء ،
واعتياد أماكن الإختلاط كالأسواق وغيرها دون حاجة أو ضرورة .
فإنَّ للنظر ومداومته أثرٌ في تعلق القلوب
بالمنظور ، ولابن قيم الجوزية - رحمه الله - كلامٌ نفيس حول هذا يطول المقام ببسطه
هنا ، فليراجع في محله(9) .
ومنها كذلك الإكثار من تناول المهيجات من
الأطعمة والمشروبات ، كاللحوم وبعض الأكلات المليئة بالدهون والمليئة بالفسفور
كالأسماك والربيان التي تهيج الشهوة على الشباب ، وخاصة وقت الإفطار ووقت السحر ،
فإنَّ من تغلبه شهوة الأكل في هذين الموضعين خيفَ عليه من أن تغلبه شهوة الفرج
عياذا بالله .
وكثير من السلف كان لا يجد وقت فطره أو سحوره
إلَّا تمرات أو جرعات من الماء ، أو رغيفاً أو نصف رغيف يسد به حاجته . أما في
زمننا هذا فإنَّ الموائد يتكلف فيها ما لو جمع لسد حاجة كثير من فقراء المسلمين .
كذلك مما يكون حائلاً لكسر الصوم شهوة الشباب
الفراغ عن العمل ، فإنَّ البطالة مما تجلب الفساد على الشاب في دينه ودنياه ، وقد
قال الشاعر :
إنَّ الشباب والفراغ والجدة .. مفسدة للمرء أيُّ مفسدة
هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن يسهل الزواج
لكل مسلم طلبه إحصانا لفرجه وغضاً لبصره ، كما أسأله تعالى أن يعين كلَّ من لم
يستطع طولًا على الصبر والصيام الذي يحدُّ من شهوته ويضعفها حتى ييسر الله له
الزوجة الصالحة .
هذا والله أعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على
نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه / أبو حمود هادي محجب
13/ 10 / 1436هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [ آل عمران : 102 ] .
(2) [ النساء : 1 ] .
(3) [ الأحزاب : 70 ، 71 ] .
(4) [ النساء : 25 ] .
(5) تيسير الكريم الرحمن ، ص174 .
(6) متفق عليه .
(7) انظر نيل الأوطار للشوكاني .
(8) انظر فتح الباري ( 5 / 238 ) .
(9) انظر كتاب روضة العاشقين ونزهة المحبين لابن قيم الجوزية رحمه الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
| روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
| URL | |
| HTML | |
| BBCode | |













0 التعليقات: