مكتبة أبي حمود العلمية

أصحابنا الحمقى، والسلام على أصحابهم . . .



                         بسم الله الرحمن الرحيم        

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

    يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ (١٠٢)(١)، يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا ١(٢)، يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا (٧١)(٣). أمَّا بعد:

    فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النَّار.

    لا شكَّ أنَّه ما من طالب علمٍ إلَّا ويعلم أنَّ التوفيق بيد الله، وله أسبابه. وأنَّ الضلال قد كتبه الله، وله أسبابه. ولكنَّ المصيبة تعظم على من أضله الله على علم وجعل إلهه هواه وختم على قلبه، وأعمى بصيرته.

    ومن أجلى أسباب الضلال في طلب العلم؛ هو إعجاب المرء بنفسه، واغتراره بما حفظه من بطون الكُتُبِ، واعتزاله مجالس العلماء، وعكوفه على كتب الضلال ظاناً نفسه قد فهم وقد وعى. وهو في حقيقته قد أشرف على مهايع ترديه، ومهاوي تفنيه، ورمى بنفسه في مفاوز الجهل والضلال.

    فكم قد عرفنا من طلاب العلم من غرتهم أنفسهم؛ وأعجبوا بما لديهم، فباتوا يتخبطون في ظلمات الكتب وما حوت، مما لا يفهم عويصها إلا جهابذة العلم على إشفاقٍ منهم أن تزل قدمٌ بعد ثبوتها. ونفخ في إهابهم الشيطان؛ فغرهم بالعلم الغرور. فلم يعرفوا لعالم قدره. ولم يأتُوا بيوت العلم من أبوابها.

    فخسروا خسارة ضاع بها أولهم وآخرهم، ورمتهم عواصف الجهل في مناكب الضلال، حتى فقدوا عقيدتهم وهي أجلُّ وأنفسُّ ما امتلكه طالب العلم وحصله في تجارته مع ربه بالعلم. فبارت صفقاتهم، وكسدت بضاعتهم؛ حين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. فانغمسوا في محاصيل علوم الهند واليونان والإغريق، فأكبوا على القراءة فيها، وعكفوا على ترديدها كالببغاوات. فلا هم حفظوا ما بقيَ لهم من رسمٍ في عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا هم حصلوا شيئاً من كتب الفلاسفة والمنطق وأهل الكلام.

    وكأنَّ الرازي قام فيهم منشداً؛ نهاية إقدام العقول(٤). وكأنَّ السُبكي الذي لَبَّسوا بكلامه ليضفوا عليه طابعاً كلامياً؛ نادى بهم أنَّه قد ندم على علم الكلام عندما كان أشعرياً، ورجع عنه.

    فأصبحوا كمسافرٍ عمد إلى سفينة متهالكة، دهتها عواصفُ مدلهمة، تجارت بها في بحار الأهواء والضلال، فرمت به في جزيرة من الجزر النائية التي لا يقطنها بشرٌ يأوي إليهم.

    ذلكم مثلُ رجلٍ كان معنا يوماً من الأيام؛ أخاً وزميلاً ومزاحماً عند مشايخنا، فسوَّلَت له نفسه الأمارة بالسوء، وأملى له الشيطان بالمداومة على العكوفِ على قراءة كتب المنطق الممحوق، وكتب الفلسفة الفارغة من الهدى، فأقبل عليها يضمها ويستنشقها، ويُقَبِّلُها، ويبلعُ منها ما بصقه الشيطان من كلامٍ سيء في فيه. وما قذفه من فهمٍ عفنٍ في عقله.

    وأخذ يسحب قدميه من مجالس مشايخنا، ويزهد بها، حتى انقطع في بيته وتفرَّغ تماماً لتلك المكتبة التي جمع فيها الحق والباطل، فكانت كمن وصفهما تعالى بقوله: وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ(٥)حتى طغت كتب الباطل عليه، واستحوذت عليه، وتفردت بلباب عقله، وأخذت بشغاف قلبه، فناصر أهل الباطل وأيدهم، وصحح ما هم عليه، وأساء الأدب مع مشايخه، وخاطبهم بما لا يليق أن يخاطبَ تلميذٌ شيخه، فباء بسوء العاقبة.

    وبعد أن انتقل إلى مدينةٍ أخرى؛ واستقر بها، وجاور بها خير جوار، فلم يرعَ حرمة من جاور صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف قدرَ سنته صلى الله عليه وسلم، ولم يستحيي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين بلغه ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم حينَ سألَ جارية معاوية بن الحكم السُّلَمِي؛ أين الله؟، قالت: في السماء. قال لها: من أنا؟، قالت: أنت رسول الله.

    بل ساء حاله أكثر من ذي قبل، إلى أن بلغ به الحال إلى اعتناق عقيدة الضلال وصرَّح بأشعريته.

    وتجارى به الحُمْقُ إلى أن خَيَّلَ له الشيطان بأنَّه صار أهلًا لنقد جهابذة العلم، المتقدمين، فوصل به الحال أنَّه صار يتخيل أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأضرابه من علماء أهل السنة والجماعة لم يفهموا كلام سادته الأشاعرة والماتريدية.

    فما أعظمها من فرية، وما أكبرها من تهمة؛ لو صدرت من حاقدٍ لربما استحيا من الله ومن أهل العلم ألَّا يكون منصفاً مع خصومه. ولكنه الحمق وإعجاب صاحب الهوى بهواه ورأيه.

    عشرات الردود إن لم تكن المئات أو الآلاف؛ تشهد لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، على صولاته وجولاته، ومنازلاته لهم بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة، لو لم يكن له منها إلَّا العقيدة الواسطية لكفت أهل السنة والجماعة حجة يحتجون بها على كل فرق الضلال، وليست الأشاعرة والماتريدية فحسب.

    ومثله قُل من علماء أهل السنة والجماعة الذين كان لهم ردود على سادتك، ومن جاء بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله تبارك وتعالى.

    ناهيك عن المخازي الأخرى التي اجتالتك الشياطين فوقعت بها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر؛ دفاعك عن الإخوان المجرمين، ومن كان في ميدان رابعة من الذين أثاروا الثورات وفجروها في شتى بلاد المسلمين. فأيُّ مصيبة أصابتك في دينك، وأيَّ خرابٍ حلَّ بقلبك. أسأل الله العفو والعافية والسلامة.

    فبئس الورد وردك، وبئس الصَّدَرُ صَدَرُك، إذ تُصَرِّحُ بأنَّك أشعريَّ المعتقد. وتؤلفُ المؤلفات، وتنقدُ وتردُّ بما يوافق هواك. وبِتَ تنفي استواء الله تبارك وتعالى على عرشه. وتقدم عقلك المريض على صريح القرآن وصحيح السنة. فيا لهول الفاجعة عليك إن بقي معك مسكة من عقل.

    واليوم تفاخر بأنَّ لك أصحاباً تحمِّلُ من عرفتَ ومن لم تعرف سلامك إليهم، فبئس الصاحب والمصحوب.

    وإنِّي لأسأل؛ بالنسبة للفقه، ما هو مذهبك اليوم؟، وما هي أصولك؟.

    فإن زعمتَ أنك حنبليٌّ؛ فكذبت. لأنَّه قلَّ أن تجد من الحنابلة من أصابته لوثة الأشاعرة في الصفات إلَّا من ظهر في حين فترة من جهابذة العلم وأئمته. فكيف وأنت حنبلي الولادة والتربية والنشأة والتعليم. فنكس الله قلبك وأنكرت ما قد كنت تعرف.

    وإن زعمت أنَّك لا تنتمي لمذهبٍ معين فكذبت، لأنَّه قلَّ أن تجِدَ عالماً من علماء الإسلام لا تجد أصوله حنبلية، أو شافعية، أو مالكية، أو حنفية. مهما بلغ رتبة الإجتهاد في الفقه. ناهيك عن كونك صعلوكاً متطفلاً على موائد العلم.

    فلو نظرتَ إلى النووي وابن حجر؛ لوجدتهما شافعيان، وقد بلغا رتبة الاجتهاد. وابن تيمية وابن قدامة؛ لوجدتهما حنبليان، وقد بلغا رتبة الاجتهاد. وأمثالهم كثر في تاريخ الفقه الإسلامي.

    والغباء كلُّ الغباء؛ أن يدَّعِيَ رجلٌ صحبة قومٍ لا يعرفونه أصلاً. ولم يتتلمذ على يد رجلٍ منهم ولا من أتباعهم طرفة عين. ولم يجلس في حلقات أحدهم، ولم يخطُ خطوة واحدةً في أروقة مدارسهم يوماً. فكان مُتَشَبِّعاً بما لم يُعْطَ فهو كلابس ثَوْبَيْ زورٍ.

    وكلُّ حاصل أمره؛ أن رمى به هواه، إلى بيداء معتقدهم المُعْوَجِ فتشابهت قلوبهم. فلا هو في الفقه فقيه، ولا هو في الأصول أصولي. وإنَّما حاصل بضاعته المزجاة هو سفسطة وفلسفة ومنطقٌ ممحوق. ملأ به جرابه الخَلِقَ ويظنُّ نَفسَهُ على شيء.

    وبعد هذا كله؛ لا يزالُ هناك مُتَّسَعٌ للتوبة، فاغتنم الفرصة وبادر إلى التوبة، لأنَّك لا تدري متى يدهمك هادم اللذات، فلا أصحابك الذين أقرأتَهم السلام بنفافعيك إذا بلغت الحلقوم، ولا منطقك بمنجيك عند ربك يوم القيامة. وأنت رجلٌ قد مضى من عمرك ما يوجب عليك أن تقول: رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ (١٥)(٦).

    واجعل لك عبرة من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عوداً عوداً، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها، نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أَنكرَها نُكِتَ فيه نكتةٌ بيضاءَ، حتى تصير على قلبين، على أبيضَ مثلَ الصفا، فلا تضره فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسودُ مُرْبَادًّا، كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرفُ معروفاً ولا يُنكِرُ منكراً، إلَّا ما أُشرِبَ من هواه](٧).

    وإنِّي لأسأل الله أن يردَّكَ للحق ردًّا جميلاً، فإنَّ الرجوع للحق، خيرٌ من التمادي في الباطل. كما أسأله تبارك وتعالى لي ولك ولكل مسلم الهداية إلى الحق، والثبات عليه، وملاقاة الله عليه وهو راضٍ عنا. وأن يرحمنا ويتجاوز عن سيئاتنا. وصلى الله وسلَّمَ وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه فقير رحمة ربه وعفوه

أبو حمود هادي بن قادري بن حسين محجب

السبت الموافق للرابع من شهر جمادى الأولى

لعام اثنين وأربعين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية

على صاحبها أفضل الصلاة والسلام


ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) [آل عمران:١٠٢].

(٢) [النساء:١].

(٣) [الأحزاب:٧٠-٧١].

(٤) أبيات أنشدها الرازي يقول:

نـهــايـة إقــدام العـقــول عــقـالُ .. وأكثرُ سَعْيِ العالمينَ ضلال

وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا .. وحاصلُ دنيانا أذًى ووبالُ

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا .. سوى أن جمعنا قيلَ وقالوا

(٥) [البقرة:٢١٩].

(٦) [الأحقاف:١٥].

(٧) أخرجه مسلم في الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً، برقم (٢٣٩).





روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode

0 التعليقات:

المقالات

   البلاغة العربية نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة والعربية    همسة في صماخ الأستاذ علي حملي    إشباع النهم ببيان أقسام تعلق الكلم    الشيخ محمد أيوب رحمه الله سيرة وعطاء    التوحيد هو أعظم الأمور وأهمها    البيان والارتجال في الخطابة والوعظ والمقال    العلم الشرعي وأثره في حياة سلفنا الصالح    الأخوة الإيمانية عند حسام العدني    دولة فاحش والحرب على الإسلام بالوكالة وتفجيرات باريس


Flag Counter

التصفح المباشر

مواقع سلفية

   مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية