شرح الأربعين النووية وتتمتها لابن رجب الحنبلي .. الحديث الأول
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإنَّ أصدقَ الحديث كتاب الله ، وخيرَ الهدي هدي مُحمدٍ r ، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها ، وكلَّ مُحدثة بدعة ، وكلَّ بدعة ضلالة ، وكلَّ ضلالة في النَّار .
لا شك أنَّ علم الحديث من أجل العلوم وأشرفها ، التي يسعى لتحصيلها طالب العلم ، لأنَّ فيه من الحرص على بيان وإبراز سنة المصطفى r ما لو سعى فيه الطالب وجَدَّ في تَحصيله ؛ لوَجَدَ فيه من الأجر ما لا يعلم قدره إلا الله تبارك وتعالى , ويكفي من ذلك كثرةُ الصلاة على النبي r ، ولا شك أنَّ أكثرهم صلاة عليه هم طلبة علم الحديث ؛ رواة سننه وآثاره r ، فإنَّه ما من كتاب من كتب الحديث على تنوُّعِها - ما بين مُختصر ومتوسط ومطوَّلٍ - إلاَّ وقد اشتمل في صفحاتِه على آلاف الأحاديث التي تَحمل معها صلواتٍ على النبي r .
ثُمَّ تَعَلُّمُ الأحكام الشرعية والعملُ بِها وبيانُها للناس , وهذا ليس بالعمل الْهَيِّن أو السهل أبداً .
ولقد كانت آثار النبي r غيرَ مدونة وغيرَ مرتَّبة في عصر أصحابه رضوان الله عليهم وكبار التابعين لأمرين :
الأمر الأول : أنَّهم كانوا في ابتداء الحال قد نُهوا عن ذلك خشية أن يَختلط بالقرآن الكريِم .
الأمر الثاني : لسعة حفظهم وسيلان أذهانِهم ، ولأنَّ أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة .
لكن لَمَّا ظهرت البدعُ وكثرت من الخوارج والروافض ومنكري القدر في أوائل عصر التابعين وأواخره ؛ بدأ تدوينُ الحديث وجَمعُه في الجوامع ، فأول من جَمع في ذلك « الربيع بن صُبَيحٍ » وكان رجلاً مُجاهداً صالِحاً توفي غازياً في بَحر السند سنة ستين ومائة للهجرة ، ودفن في جزيرة هناك . و« سعيد بن أبي عروبة » واسْمه مهران العدوي . وغيرهُما ، وكان جَمعهم على الأبواب ، ولكن غير مُوَحَّد بل كانوا يَجمعون كل باب على حِدَة .
ثُمَّ قامَ كبارُ أهلِ الطبقةِ الثالثةِ فَدَوَّنوا الأحكام ، وهؤلاء هم فقهاءُ المحدثين ، كالإمام الزهري رحِمه الله ، والإمام مالك رحِمه الله الذي صَنَّفَ الموطأ ، فدوَّن فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم ، كذلك صنف ابنُ جريجٍ بِمكة ، وأبو عمرٍو الأوزاعيُّ بالشام ، وسفيانُ الثوريُّ بالكوفة ، وحَمَّادُ بنُ سلمةَ بالبصرة ، وتبعَهم على هذا خلقٌ كثيرٌ .
ثُمَّ على رأس المائتين رأى بعض الأئمة ضرورة إفراد حديث النبي r خاصة وهؤلاء هم أهل المسانيد ، فصنف عبيدُ الله بنُ موسى العبسيُّ الكوفِيُّ مسنداً ، وصنف مُسدَّدُ بنُ مسرهدٍ البصري مسنداً ، وصنف أسدُ بنُ موسى مسنداً ، وصنف نَعِيمُ بن حَمادٍ الخزاعيُّ نزيلُ مصرَ مسنداً ، ثُمَّ تبعهم الأئمةُ في تدوين المسانيد فقلَّ أن ترى إماماً منهم إلاَّ وقد صنف حديثَه على المسانيد كالإمام أحْمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة ، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معاً كأبي بكر بن أبي شيبة .
ثُمَّ أتى البخاري رحِمه الله فاطلع على أكثر هذه التصانيف ورواها واحتواها ، ورآها جامعة بين ما يدخل تَحت التصحيح والتحسين وكثير منها ما يشمله التضعيف ، فحرك هِمته لِجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أحد ، ثُمَّ إنَّ مِمَّا قوى عزيِمته على هذا ما سَمعه من شيخه ابن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقال : « لو جَمعتم كتاباً مُختصراً لصحيح سنة رسول الله r » ، قال : فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جَمع الجامع الصحيح(1) .
ومِمَّا نُقِلَ عن البخاري رحِمه الله ما حكاه ابن حجر رحِمه الله قال : ورُوِّينا عن مُحمد بن سليمان بن فارس قال : سَمعت البخاري يقول : رأيت النبي r وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذبُّ بِها عنه , فسألت بعض المعبِّرين فقال لي أنت تذُبُّ عنه الكذب , فهو الذي حَملني على إخراج الجامع الصحيح(2) .
ثُمَّ توالى بعد ذلك أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد والمصنفات والمعاجم والأجزاء . حتى ظهرت المختصرات والمختارات ، ومن بين ذلك الأربعينات(3) ، ومن أشهرها هذه الأربعون حديثاً المختارة المعروفة بالأربعين النووية التي سيتم شرحها إن شاء الله تبارك وتعالى ، للإمام أبي زكريا يَحيَى بن شرف النووي رحِمه الله تبارك وتعالى نسبة إلى نوى ، وهو من كبار علماء الشافعية المعروفين ، له شروح في الحديث والفقه وسائر علوم الدين .
وأصل هذا المتن الذي بصدد شرحه أنَّ الإمام ابن الصلاح رحِمه الله تبارك وتعالى كان قد جَمع ستة وعشرين حديثاً مِمَّا يدور عليها عِلْم الشريعة ، ثُمَّ زاد عليها الإمام النووي رحِمه الله تبارك وتعالى ستة عشر حديثاً بعد تأملٍ وطولِ نظر ، فصار مَجموع الأحاديث التي اختارها رحِمه الله اثنين وأربعين حديثاً فأُطْلِقَ عليها بعد ذلك الأربعون من باب التغليب ، والنووية نسبة إلى مصنفها وهو الإمام أبو زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله أحد أئمة الشافعية في زمانه .
ثُمَّ جاء الحافظ ابن رجب الحنبلي رحِمه الله تبارك وتعالى وزاد عليها ثَمانية أحاديث فصار المجموع الكلي لَها خَمسين حديثاً مِمَّا تدور عليه الشريعة الإسلامية ، وقد شرحها رحِمه الله تعالى في كتابه « جامع العلوم والحكم في شرح خَمسين حديثاً من جوامع الكلم » .
وبِما أنَّ هذه الأحاديث هي مِمَّا اخْتِيرَ من جوامع الكلم ؛ فعليه فإنَّه يدخلُ فيها أمورٌ كثيرةٌ, كبيان الإخلاص ، وبيان أركان الإسلام والإيِمان والإحسان ، وبيان الحلال والحرام ، والتحذير من خطر الابتداع في دين الله تبارك وتعالى ، وبيان الآداب الإسلامية العامة ، وبيان صفات الله تبارك وتعالى ، وغير ذلك من الأمور المهمة في شريعة الإسلام .
فهذه الأربعون حديثاً وزيادتُها شَملت علوم الدين , فما من مسألة من مسائل الدين المهمة إلاَّ وقد شَملتها هذه الأحاديث سواء كانت في العقيدة أو في الفقه . والمتتبع لشروحها وخاصة شرح الحافظ ابن رجب رحِمه الله يَجد هذا جلياً .
ومن هنا يتبين لطالب العلم أهَمية العناية بِها حفظاً وتعلماً وفهماً وعملاً وتعليماً ، لأنَّ في فهمها فهماً لأصول الدين العامة وقواعد الشريعة ، إذ أنَّ منها ما فيه بيانٌ لبعض أحكام الدين كما سيتضح معنا في الشرح بإذن الله تعالى .
وهي من خيرة المتون التي اعتنى بها المحدثون منذ خروجها على يد الإمام النووي رحمه الله إلى يومنا هذا .
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على ما قصدناه ، وأن يَجعل نياتنا خالصة له ، وأن ينفعنا بشرحها ، وأن يوفقنا لفهمها والعمل بِما فيها من خير ، وأنْ يَجزي جامعيها وناشريها وشارحيها خير الجزاء ، إنَّه جوادٌ كريِم ، وصلى الله على نبينا مُحمد وعلى آله وصحبه وتابعيهم ومن تبعهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
الحديث الأول
[1] عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ : «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَىٰ , فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ اللهِ وَرَسُولِهِ , وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَىٰ دُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوْ إِلَىٰ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَىٰ مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
رواه إماما الْمُحدثين أبو عبد الله مُحمدُ بنُ إسْماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةَ بن بردزبةَ البخاريُّ ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري ، في صحيحيهما اللذين هُما أصح الكتب المصنفة .
راوي الحديث :
هو أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب القرشي العدوي ، ثاني الخلفاء الراشدين . كان سفير قريش في الجاهلية وكان أول البعثة شديداً على المسلمين ثُمَّ أسلم فكان إسلامه فتحاً عليهم وفرجاً لَهم من الضيق . قال عبد الله بن مسعود : ما كُنَّا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر . وكان إسلامه بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة ، سنة ست من البعثة ، وهاجر جهراً على أعين قريش ، وحضر المشاهد كلها مع رسول الله r . بويع بالخلافة يوم وفاة أبي بكر الصديق t سنة 13هـ بعهد منه .
وفي أيامه تَمَّ فتح الشام والعراق ، وافتتحت القدس والمدائن ومصر والجزيرة . حتى قيل : انتصب في مدته اثنا عشر ألف منبر في الإسلام .
استشهد سنة 23هـ بعد أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي في خاصرته وهو يصلي صلاة الصبح ، وعاش بعد الطعنة ثلاث ليال رضي الله عنه وأرضاه .
موضوع الحديث :
الأعمال بالنيات .
المفردات :
قوله «إِنَّمَا ٱلأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ» : إنَّما سيأتي الكلام عليها قريباً إن شاء الله تبارك وتعالى ، والأعمال جَمع عمل ويشمل القول والفعل . والنيات جَمع نية وهي القصد المقترن بالعمل ، أي كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية .
قوله «فمن كانت هجرته» : الهجرة اسم للهَجْرِ والهُجْرَانِ الذي هو ضد الوصل ، وكذلك المهاجرة من أرض إلى أرض يعني ترك الأولى للثانية .
قوله «إلى الله ورسوله» : أي إخلاصاً لله وطاعةً لرسوله r .
قوله «لدنيا يصيبها» : أي لتجارة ينالُها ، أو أي عرض من أعراض الدنيا .
قوله «أو امرأة ينكحها» : أي يتزوجها .
المعنى الإجْمالي :
هذا الحديثُ لا شك أنَّه حديثٌ مهم ، حتى أنَّ بعض علماء السلف رحِمهم الله قالوا : « ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم » .
وقد مضى معنى الكلام عليه في مطلع شرحنا على كتاب الطهارة من متن عمدة الأحكام ، فليراجع هناك .
فقه الحديث :
يؤخذ من هذا الحديث :
أولاً : عِظَمُ هَذَا الحديث في كونه أحد مدارات الإسلام .
ثانياً : أنَّ المقصود بالأعمال في الحديث ؛ جَميع أعمال القلب ، وأعمال النطق ، وأعمال الجوارح ، فرضها ونفلها .
ثالثاً : بيان تفاوت ثواب الناس على أعمالِهم الشرعية حسب تفاوتِهم في النيات .
رابعاً : بيان أهمية النية في العمل الشرعي ، ووجوب الإخلاص فيه لله تبارك وتعالى .
وبقية فوائد الحديث تنظر في شرح الحديث الأول من كتاب الطهارة من متن عمدة الأحكام .
هذا والله أعلم ؛ وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر مقدمة هدي الساري ( 1 / 9 ) ط دار طيبة .
(2) المصدر السابق .
(3) وهي كثيرة متعددة الأغراض والمقاصد والمواضيع ، ومن أشهرها الأربعون النووية لإمام النووي ، ومنها أربعون حديثاً للحافظ ابن حجر رحِمه الله منتقاة من صحيح مسلم معروفة باسم ( عوالي مسلم ) ، ومنها متن الأربعين حديثاً للإمام الآجري ، ومتن الأربعين في دلائل التوحيد لأبي إسْماعيل الهروي ، ومتن الأربعين في الجهاد والمجاهدين لأبي الفرج مُحمد بن عبد الرحْمن المقرئ ، ومتن الأربعين حديثاً مشيخة ابن تيمية برواية الإمام الذهبي ، ومتن الأربعين البلدانية عن أربعين من أربعين في أربعين لأبي القاسم بن عساكر ، ومتن الأربعين العشارية لأبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي ، ومتن الأربعين من مسانيد المشايخ العشرين عن الأصحاب الأربعين لأبي سعد عبد الله بن عمر بن أبي نصر القشيري ، وغيرها كثير .
كتبه
| روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق | |
| URL | |
| HTML | |
| BBCode | |














0 التعليقات: