مكتبة أبي حمود العلمية

أصول الفقه دراسة تحليلية - الجزء الثاني . . .




بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمَّا بعد :
    فها نحن مع الجزء الثاني من هذه السلسلة - أصولُ الفقه دراسة تحليلية - والتي سيكون محور الحديث فيها عن مدارس أصول الفقه إن شاء الله تعالى .
    فبعد أن تطرقنا في الجزء الأول لمقدمة في أصول الفقه ، بَيَّنَّا فيها تعريفه وموضوعه والثمرة المترتبة على دراسة هذا الفن الجميل .
    سوف نستعرض في هذا الجزء من السلسلة تاريخ نشأة هذا العلم وأهم مدارسه ، فأقول مستعيناً بالله تبارك وتعالى :

    ولا شكَّ أنَّ طلاب العلم يتفقون على ما قد مضى معنا في الجزء الأول من هذه السلسلة ؛ وهو أنَّ أول من وضع في علم أصول الفقه هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى .
    وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ الإمام الشافعي هو واضع هذا العلم ابتداءً ، بل كانت قواعد هذا العلم موجودة ويتعامل بها في اجتهادات الصحابة والتابعين كذلك ، وظهرت قواعد أصولية فرعية كانت بمثابة النواة لهذا العلم ، عُدَّت أساساً في مبادئ الترجيح بين الأدلة المتعارضة ، ظهرت في قياس علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حدِّ السكران على القاذف . وفتوى ابن مسعود - رضي الله عنه - بأنَّ عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع حملها ، لنزول سورة الطلاق وفيها بيان عِدَّة الحوامل ؛ متأخرة عن نزول سورة البقرة وفيها بيان عِدَّة المتوفى عنها زوجها ، فكان المتأخرُ من النصوص ناسخاً لما قبله أو مخصصاً له .
    وكذلك من القواعد التي كان معمولاً بها عندهم ؛ تقديم المتواتر على الآحاد ، والخاص على العام ، والتحريم على الإباحة ، وتخصيص العام بالخاص ، وحمل المطلق على المقيد ، مثلُ قوله تبارك وتعالى : ⦕ حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ (١) ، ومثلُ قوله تبارك وتعالى : ⦕ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمًا مَّسۡفُوحًا ⦖(٢) ، فحُملَ اللفظ المطلق في آية المائدة على اللفظ المُقَيَّدِ في آية الأنعام ، فكان الدَّمُ المحرَّم هو الدَّمُ المسفوح .
    وكان كذلك لبعض التابعين وأئمة المذاهب قبل الشافعي قواعد وأصول يعتمدونها في استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية واستنباطها ، ولا يزال العمل بهذه القواعد والأصول ، ولا تزال منقولة عنهم ، واضحةٌ معالمها في الاجتهادات المنقولة عنهم ، جرى بيانها على أيدي تلاميذهم من بعدهم في مصنفاتهم .
    لكنَّ هذه القواعد لم تكن مجموعة بشكل علمي ومرتبة في مصنفٍ واحدٍ يضمها ، ولكنها كانت معلومة لديهم ومتعارفاً على العمل بها ومراعاتها في اجتهاداتهم . حتى جاء عصر الإمام الشافعي - رحمه الله - فكان أوَّلَ من صنف في هذا العلم مصنَّفاً علمياً جامعاً لبعض قواعد هذا العلم في كتابه الرسالة .
    فتوالى التدوين والتصنيف في هذا الفن بعد ذلك ، فألَّفَ الإمام أحمد - رحمه الله - كتاب ( طاعة الرسول ) ، وكتاب ( الناسخ والمنسوخ ) ، وكتاب ( العلل ) . وألَّفَ غير واحدٍ من علماء الحنفية وعلماء الكلام في هذا الفنِّ . فأصلوا مناهج وقواعد علم أصول الفقه استنباطَ واستخراجَ واستخلاصَ الأحكامِ الشرعيةِ من أدلتها التفصيلية .

    فنشأت بعد ذلك مدارس في أصول الفقه ، جاءت نتيجة لكثرة التأليف والتصنيف في هذا الفنِّ ، وتنوَّعت بحسب مشارب كل قومٍ في التلقي والاستسقاء .
   ولكن قلَّ من يعلم من طلبة العلم وخاصة المبتدئين منهم أنَّ لعلم أصول الفقه مدارس شتى تعاقب ظهورها بعد ذلك .

    فكما أنَّ للفقه مدارس ؛ مدرسة الحديث ، ومدرسة الرأي ، كذلك انقسم علماء الأصول إلى مدارس متعددة ، ومسالك مختلفة ، فمنهم من سلك المنهج النظري في التأليف ، بدون الالتفات إلى الفروع التي تنبثق عن هذه القواعد ، وهذه المدرسة عُرِفَت بطريقة المتكلمين . ومنهم من سلك مسلك التأثر بالفروع التي نُقِلَت عن أئمتهم ، وهذه المدرسة عُرِفَت بطريقة الفقهاء والمراد بهم فقهاء الحنفية . وفي نهاية القرن السابع الهجري ؛ حاول المتأخرون الجمع بين المدرستين أو الطريقتين ، والتنسيق بين الجهدين ، فجاءت تصانيفهم جامعة بين الفائدتين .
    ومحور الخلاف بين الطريقتين هو كيفية تقرير القاعدة ، هل تكون سابقة على الفروع والتطبيقات ؟ ، أم أنَّ الفروع والمسائل هي الأصل ؟ ، وأنَّ النظرية هي التابع ؟ .



    وقد عُرِفَت بطريقة الشافعية ، لأنَّ الشافعي أول من نهجها ، وأكثر وأشهر من انتهجها كانوا شافعية ، والشافعية هم الذين سبقوا للكتابة فيها . كما عُرِفَت أيضاً بطريقة الجمهور ، لانتهاج أكثر الأصوليين من المذاهب الثلاثة - المالكية والشافعية والحنابلة - هذا النهج في تدوين الأصول .
    كذلك عُرِفَت بطريقة المتكلمين ؛ لكونهم استمدوا مناهج دراستهم من علم الكلام ، ولأنَّ أكثر من كتب فيها كانوا من علماء الكلام ؛ الذين تأثروا بعقيدة الاعتزال تحديداً .
    فاتجهوا اتجاهاً منطقياً نظرياً ، كثرت فيه الفروض النظرية ، فأخذوا يجردون صور تلك المسائل عن الفقه ، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن ، بمعنى أنَّ أصحاب هذه المدرسة قرَّرُوا قواعد الأصول المأخوذة من الأدلة النصية النقلية واللغوية والكلامية والعقلية .
    وحققوها من غير نظر إلى الفروع الفقهية ، لأنَّ الأصول عندهم أسبق من الفروع ، وهذا اتجاه منطقي في تقرير القواعد الأصولية المستفادة من الأدلة المجرَّدة من غير تعصب لمذهب أو استنباط ما ، وحتى تكون ميزاناً لضبط الاستنباط ، ومعياراً لسلامة الاستدلال ، ومنطلقاً للاجتهاد المتحرر من المذهبية من غير أن يكون هناك أي تسلط للفروع المذهبية ، أو تسيير للنظر ، أو قيود لا خروج عنها ، فيكون الحكم للأصول على الفروع .
    وقد درَجَ أصحاب هذه المدرسة على هذا المنهج والتزموا به ، فلم يأتوا على الفروع الفقهية إلَّا على سبيل التمثيل والإيضاح .




    
     وأبرز خصائص طريقة المتكلمين تتلخص في خمس خصائص تقريباً :

    أولاً : تحقيق المسائل وتقرير القواعد .
    ثانياً : تمحيص الخلاف مع الاعتماد على الاستدلال العقلي المجرد .
    ثالثاً : الإكثار من الجدال في المسائل والقواعد على طريقة علماء الكلام .
    رابعاً : عدم التعصب لمذهب فقهي معين .
    خامساً : علاقتها مع الفروع الفقهية في حدود الإيضاح والمثال . بمعنى أنَّهم ليس لهم علاقة بالتطبيق إلَّا فيما نَدَر .

    وكان لهذه الطريقة وخصائصِها أثرٌ كبيرٌ في استهواء كثير من الأصوليين في شتى العصور ، حيث بلغ ذروته في عصرنا الحاضر الذي أعطوا فيه للعقل مدى واسعاً جداً ، ويرى بعض الباحثين أنَّ هذه الطريقة أثرت ببحوث أصحابها علم أصول الفقه ، والتعمق في مدلولاته ، وبلورة قضاياه ومبادئه ، دون أن يكون للمسائل الفرعيَّة أيُّ أثرٍ عليها . متجهين اتجاهاً نظرياً خالصاً .



    

    وبما أنَّ المتكلمين هم ممن تأثروا بالمناهج والعقائد التي تأثر أصحابها بكتب الفلاسفة وعلوم المنطق ، وعلوم الهند واليونان ، وتشربوا منهم تلك العقائد الفاسدة والباطلة ، فقد ظهر فسادها في مؤلفاتهم وإنتاجهم الفكري ، فظهرت كتبٌ ومؤلفات لا زالت إلى يومنا هذا تُعَدُ عُمَداً وأصولاً عند كثيرٍ ممن انحرفوا عن جادة السنة ، وعند أهل الكلام من شتى طوائف الإسلام . وعرفت هذه الكتب فيما بعد بكتب أهل الكلام ، وأهمها :
    ١. كتاب العهد للقاضي عبد الجبار المعتزلي .
    ٢. كتاب المعتمد لأبي الحسين محمد بن الطيب البصري المعتزلي .
    ٣. كتاب البرهان لأبي المعالي الجويني .
    ٤. كتاب المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي .
    وتتمثل هذه الكتب ملخصة في كتاب المحصول للفخر الرازي ، وكتاب الإحكام في أصول الأحكام للآمدي .
     ومن ثَّمَ توالت بعد ذلك الشروحات والمختصرات عليهما ، وظهرت بعد ذلك مختصرات على المختصرات وشروحات لمختصرات المختصرات .
     وأكثر كتب الأصول نفعاً لطلاب العلم ؛ شرح مختصر الروضة للطوفي ، والبحر المحيط للزركشي ، وشرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي ، وإرشاد الفحول لمحمد بن علي الشوكاني .




    

    طريقة الفقهاء ؛ والمراد بهم فقهاء الحنفية ، وقد نسبت إليهم لكونهم هم من التزموا الكتابة والتأليف بهذه الطريقة .






    التزم أصحاب مدرسة الفقهاء خط سيرٍ نمطي تقريري لفروع أئمتهم ، قلَّ أن يحيد عنه أحدهم ، وتتلخص أهم خصائص هذه المدرسة فيما يلي :
     أولاً : التزموا خط التأثر بالفروع .
     ثانياً : بيان أن الأصول هي لخدمة الفروع .
     ثالثاً : إثبات سلامة مبدأ الاجتهاد فيها .
     رابعاً : قرروا فيها القواعد الأصولية على مقتضى ما نقلوه من فروع أئمتهم .
     خامساً : ادعوا أنَّها القواعد التي لاحظها أئمتهم عند تفريع الفروع .
    سادساً : صارت عندهم بمثابة أصول تأخر استخراجها عن وجود الفروع .
    سابعاً : لذلك تجدهم يكثرون من ذكر هذه الفروع في كتبهم .
   وعليه ؛ فمن أمعن النظر في مؤلفات الفقهاء في أصول الفقه ؛ يجد أنَّ أصولهم تختلف عن أصول الشافعية أو مدرسة المتكلمين . حيث يجد أصول المتكلمين وضعت منهجاً للاستنباط حاكمة عليه . أمَّا طريقة الفقهاء فإنَّها غير حاكمة على الفروع بعد تدوينها ، وبذلك استنبطوا القواعد التي تؤيد مذهبهم وهو الفروع المقررة من أئمتهم . فصارت القواعد عندهم مُقَرِّرَةً لا حاكمة .





     وكما وجد لمدرسة المتكلمين كتبٌ ومؤلفات أعتبرت عمدة لدى سالكي هذه المدرسة فيما بعد ، كذلك وجدت كتبٌ ومؤلفات لدى أصحاب مدرسة الفقهاء اعتبروها عمدة لديهم وسلكوا على منوالها في التأليف ؛ لأنَّها تقرر منهجهم في أصول الفقه ، وهو تقرير القواعد لفروع أئمتهم التي درجوا عليها. ومن أهم هذه الكتب :
     ١. مآخذ الشرائع لأبي منصور محمد الماتريدي .
     ٢. أصول الجصاص لأبي بكر أحمد الجصاص .
     ٣. تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي ، وله كتاب تأسيس النظر .
     ٤. كنز الوصول إلى معرفة الأصول لفخر الإسلام أبي الحسن البزدوي .
    وله شرحٌ يُعدُّ من أشهر شروحاته وهو كتاب كشف الأسرار لعلاء الدين عبد العزيز البخاري .
     ٥. أصول السرخسي ، لأبي بكر محمد السرخسي .
     ٦. ميزان الأصول لعلاء الدين السمرقندي .
     ٧. منار الأنوار لأبي البركات حافظ الدين النسفي .
   وبهذا نكون قد استوفينا الكلام على نشأة أصول الفقه وأهم مدارسه ، وأهم مؤلفات المدرستين . يبقى معنا أن نسلط الضوء على طريقة الجمع بين المدرستين ، وهذا سيكون في الجزء الثالث من هذه السلسلة إن شاء الله .
    هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

كتبه راجي عفو ربه
أبو حمود هادي محجب
السبت ٢٠ / ١١ / ١٤٣٨هـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) [ المائدة : ٣ ] .
(٢) [ الأنعام : ١٤٥ ] .




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ







روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode

0 التعليقات:

المقالات

   البلاغة العربية نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة والعربية    همسة في صماخ الأستاذ علي حملي    إشباع النهم ببيان أقسام تعلق الكلم    الشيخ محمد أيوب رحمه الله سيرة وعطاء    التوحيد هو أعظم الأمور وأهمها    البيان والارتجال في الخطابة والوعظ والمقال    العلم الشرعي وأثره في حياة سلفنا الصالح    الأخوة الإيمانية عند حسام العدني    دولة فاحش والحرب على الإسلام بالوكالة وتفجيرات باريس


Flag Counter

التصفح المباشر

مواقع سلفية

   مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية