مكتبة أبي حمود العلمية

البلاغة العربية .. نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة وعلوم العربية وفوائد دراستها

بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
ففي هذا المقال سأتكلم عن نشأة البلاغة العربية وصلتها بعلوم الشريعة وعلوم العربية وفوائد دراستها.

نشأتها:
    إنَّ البلاغة العربية تمتد إلى العصر الجاهلي، مُتَمَثِّلةً في أقوال متعددة، وملحوظات متفرقة، ورَدَت على ألسنة الفصحاء من الخطباء والشعراء والرواة، ثُمَّ تَدَرَّجَت ونمت عبر العصور، حتى أصبحت دوحة كثيرة الأغصان، يانعة الثمار.
    وفيما يلي عرضٌ لمراحل نشأتها:

أولاً: مرحلة ما قبل التدوين:
    بَلَغَ العربُ في العصر الجاهلي منزلة عالية في البلاغة والفصاحة، وأصبح للكلام البليغ أثرٌ في نفوسهم، ولذلك بدت ظاهرة العناية والحرص على تنقيح الكلام وتهذيبه، ليصل إلى أعلى درجة في البلاغة، وليؤثر في سامعيه أبلغ التأثير.
    ومن أمثلة عنايتهم بتنقيح الكلام وتهذيبه أنَّ الشاعر (المُتَلَمِّس)❪١❫ كان يلقي قصيدة على جمعٍ من النَّاس -وكان من بينهم طرفة بن العبد❪٢❫- حتى إذا بلغَ قوله:
وإنِّي لأُمْضي الهَمَّ عند احتصاره     بناجٍ عليه الصَّيْعَرِيَّةُ مُكْدِمِ 
    قال له طُرفة: اسْتَنْوَقَ الجمل. حيث أخذ على (المُتَلَمِّس) وَصْفَهُ الجملَ بصفة من صفات النَّاقة. وهذا من عيوب الكلام.
    ومن أمثلة عنايتهم بفصاحة الكلام ليصل إلى أعلى درجة في البلاغة ؛ أنَّ بعض الشعراء كان يُمضي حولاً كاملاً في إعداد قصيدته وتهذيبها حتى سُمِّيَت تلك القصائدُ بـ «الحَوْلِيَّات» ، وكذلك تَسْمِيَتُهم بعضَ القصائد بـ «المُذَهَّبَات»؛ لنفاستها وجودَتها.
    وفي هذه البيئة التي أصبح للكلام البليغ تلك المكانة العالية؛ أنزلَ الله القرآن الكريم على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأذهلت فصاحته وبلاغته العربَ ولم يستطيعوا الإتيان بمثله.
    وكان عجزهم عن ذلك سبباً في محاولة معرفة السرِّ في إعجاز القرآن الكريم. ولمَّا دخلَ النَّاسُ من العرب وغيرهم في دينِ الله أفواجاً وازدادت الحاجة إلى فهم آيات القرآن الكريم، ومعرفة أسرار بلاغته وإعجازه. كلُّ ذلك كان من أسباب بدءِ مرحلة جديدة في البلاغة هي مرحلة التدوين.

ثانياً: مرحلة التدوين:
    يُعتَبَرُ كتابُ «مجاز القرآن» لأبي عبيدة أوَّلَ كتابٍ يُمثِّلُ مرحلة التدوين في البلاغة العربية، ولسبب تأليفه قصة خلاصتها: أنَّ إبراهيم بن إسماعيل الكاتب وأبا عبيدة؛ كانا في مجلس الفضل بن الربيع، فقال إبراهيم لأبي عبيدة: قد سألتُ عن مسألة، أَفَتَأذَنُ لي أن أعرِّفَكَ إياها؟، قال أبو عبيدة: هات.
    قال إبراهيم: قال الله تبارك وتعالى: طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّيَٰطِينِ ٦٥(٣)، وإنَّما يقعُ الوعد والإيعادُ(٤) بما عُرِفَ مثله، وهذا لم يُعْرَف!!.
    قلتُ -والقائل أبو حمود عفا الله عنه- وكأنَّ السائل يستغربُ مجيء المشبه به رُءُوسُ ٱلشَّيَٰطِينِ ٦٥ غيرَ معروف، وكذلك المشبه (الطلع)، فكيف تصَوُّرُ غيرِ المعروف؟!.
    فأجاب أبو عبيدة: إنَّما كلَّّمَ الله العربَ على قدر كلامهم، أما سمعتَ قولَ امرئ القيس:

أَيَقتُلُنِي والمَشْرَفِيُّ(٥) مُضاجِعِي     ومَسْنُونَةٌ زُرْقٌ(٦) كَأَنيَابِ أَغوَالِ
    وهم لم يَرَوُا الغول قط. ولكنهم لمَّا كان أمرُ الغول يهولهم أوعِدُوا به.
    فاستحسن الفضل بن الربيع ذلك الجواب، واستحسنه السائل، وعزَم أبو عبيدة من ذلك اليوم أن يؤلِّفَ كتاباً في مثل هذا وأشباهه، فلمَّا رجع إلى البصرة ألَّفَ كتابه «مجاز القرآن».
    وفي سنة ٢٧٤هـ ألَّفَ عبد الله بن المعتَزِّ(٧) كتابه «البديع»، فكان أولَ كتابٍ خاصٍّ بالبلاغة، ثُمَّ توالت المؤلفاتُ البلاغية؛ وخاصة ذات الصلة بإعجاز القرآن الكريم، حتى وصلت إلى مرحلة النضج عند عبد القاهر الجرجاني(٨) في كتابيه «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز»، وذلك في نهاية القرن الخامس الهجري.

ثالثاً: مرحلة التقعيد:
    بدأت هذه المرحلة عندما ألف فخر الدين الرَّازي(٩) كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز»، حيثُ قام بتلخيص ما وردَ في كتابي عبد القاهر الجرجاني -المشار إليهما آنفاً- ورتَّبَ موضوعات البلاغة، وبَوَّبَها، وقسَّمَها تقسيماً منطقياً.
    ثُمَّ جاء بعده أبو يعقوب السَّكَّاكِيُّ(١٠) وألَّفَ كتاب «مفتاح العلوم»، وجعلَ القسمَ الثالث منه للبلاغة، وحصرها في علمين هما: علم المعاني، وعلم البيان، ثُمَّ ألحق بهما بعض المحسِّنات التي أصبحت تُسَمَّى علم البديع.
    وهكذا استقرَّ وضع البلاغة على ثلاثة علوم هي: علم المعاني، والبيان، والبديع، وصار لكل علم منها مهمة يختصُّ بها.


تعريف البلاغة وعلومها:
    البلاغة: هي العمل الذي يُعرَفُ به فصاحة الكلام مع مطابقته لمقتضى الحال.
         وعلم المعاني: هو الذي يختصُّ بمعرفة أحوال تركيب الكلام ومطابقتها لمقتضى الحال .
         وعلم البيان: هو الذي يتِمُّ به معرفة التعبير عن المعنى الواحد بطرقٍ مختلفة، مع مراعاة مقتضى الحال.
      وعلم البديع: هو العلم الذي يُعِينُ على معرفة كيفية تحسين الكلام، بعد رعاية مطابقته لمقتضى الحال.

منزلة البلاغة بين علوم اللغة العربية:
    للبلاغة منزلةٌ رفيعة المقام بين علوم اللغة العربية التي تُمثِّلُ وحدة مترابطة، كلُّ علمٍ من علومها يبدأ من حيثُ انتهى العلم الآخر؛ فإن كان علمُ الصرف -مثلاً- يُعنى بهيئة الكلمة ووزنها، وعلمُ النحو مهمته سلامة العبارة وصحتُها وفقَ قوانين اللغة العربية، ويقف عند هذا الحدِّ، فإنَّ علم البلاغة يأتي بعد ذلك لِيُعنى بملاءمة الكلام للمقام الذي قيل فيه، ووفائه بالمعنى المراد، ووضوح هذا المعنى، وجمال الأسلوب. ويمكن إدراكُ هذه المنزلة عند تأملك للشكل التالي:


صلة البلاغة بالقرآن الكريم وعلوم الشريعة:
    يُعَدُّ علم البلاغة أحد علوم القرآن الكريم، لأنَّه يُشتَرَطُ لمن يتصدَّى لتفسير القرآن الكريم أن يكون عالماً به مع علوم اللغة العربية الأخرى. ومن أهمِّ موضوعات البلاغة دراسة الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، لمعرفة بعض الأسرار التي أعجزت العرب عن الإتيان بمثل القرآن الكريم.
    ومعرفة البلاغة مهمة لعلم العقيدة؛ لأنَّه يمكن بها الرَّدُ على من يلجأ إلى التأويل الخاطئ، وبخاصة في أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته.
    وفي علم أصول الفقه موضوعات مشتركة مع موضوعات علم البلاغة مثلُ الخبر والإنشاء، والحقيقة والمجاز، وغير ذلك، ممَّا يُعِينُ على معرفة دلالات الكلام المختلفة.

فوائد دراسة البلاغة:
    ولعلَّ القارئ الكريم يكونُ قد أدركَ شيئاً من هذه الفوائد، ممَّا سبقَ ذكره، ويمكن إجمال هذه الفوائد فيما يلي:
    ١. تُعينُ البلاغة على معرفة معاني القرآن الكريم، وأسرار التعبير فيه، والوجوه المحتملة لِجُمَلِه وتراكيبه، وبعض أسرار إعجازه.
    ٢. تُنَمِّي القدرة على تمييز الكلام الحسن من الرديء، ومعرفة أسباب الحسن والرداءة، وتوصف هذه القدرة بملكة «التذوقُ الأدبي».
    ٣. تُساعدُ على كيفية اختيار الكلام المناسب للموقف، والوصول إلى المعنى المقصود من أقرب طريق بوضوحٍ وجمال.
    ٤. تعينُ على اختيار النصوص البليغة من الشعر والنَّثر.
    ٥. تُعطي الناقد الأحكام التي يستعينُ بها على تقويم النصوص الأدبية.
    وهكذا؛ يَتَبَيَّنُ أنَّ البلاغة تفيدُ:
    المتكلمَ: بإعانته على صياغة كلامه وفقاً للمناسبة.
    والقارئ: في إدراك جمال ما يقرأ وأسبابه، أو قبحه وأسبابه.
    والناقد: بإعطائه آلات النقد وأحكامه.
    هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


كتبه
أبو حمود هادي محجب
الأربعاء ٢٥ / ٥ / ١٤٣٨هـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) المتلمِّس ويسمّى المتلمّس الضبعي، شاعر جاهلي، واسمه جرير بن عبد المسيح الضبعي وقيل جرير بن عبدالعزى، من قبيلة
      ضبيعة إحدى قبائل ربيعة. لُقّب بالمتلمّس لبيت من شعره يقول فيه :

وذاك أوان العرْض حيَّ ذبابه

زنابيره والأزرق المتلمّسُ

      وهو خال طرفة بن العبد.

(٢) طرفة بن العبد هو شاعر جاهلي عربي من الطبقة الأولى من إقليم البحرين التاريخي، وهو مصنفٌ بين شعراء المعلقات.

      وقيل اسمه طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد أبو عمرو لُقّب بطَرَفَة، وهو من بني قيس بن ثعلبة من بني بكر بن وائل.

(٣) [الصافات:٦].

(٤) الوعد يكون في الخير، والإيعاد في الشر.

(٥) المشرفي: السيف.

(٦) مسنونة زرق: الرِّمَاح.

(٧) هو عبد الله بن محمد (المعتزُّ بالله) ٢٤٧-٢٩٦هـ، شاعرٌ مبدع، تولى الخلافة يوماً وليلة، له مجموعة من المؤلفات.

(٨) هو عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت ٤٧١هـ)، من أشهر علماء البلاغة، له مؤلفات في البلاغة والنحو.

(٩) هو محمد بن عمر الرازي (٥٤٤-٦٠٦هـ)، أشعريُّ العقيدة، صاحب كتاب أساس التقديس، اشتهر بالفخر الرازي.

(١٠) هو يوسف بن أبي بكر السَّكَّاكِيُّ (٥٥٥-٦٢٦هـ)، عالمٌ بالعربية بدأ طلب العلم بعد الأربعين .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




روابط هذه التدوينة قابلة للنسخ واللصق
URL
HTML
BBCode

0 التعليقات:

المقالات

   البلاغة العربية نشأتها وصلتها بعلوم الشريعة والعربية    همسة في صماخ الأستاذ علي حملي    إشباع النهم ببيان أقسام تعلق الكلم    الشيخ محمد أيوب رحمه الله سيرة وعطاء    التوحيد هو أعظم الأمور وأهمها    البيان والارتجال في الخطابة والوعظ والمقال    العلم الشرعي وأثره في حياة سلفنا الصالح    الأخوة الإيمانية عند حسام العدني    دولة فاحش والحرب على الإسلام بالوكالة وتفجيرات باريس


Flag Counter

التصفح المباشر

مواقع سلفية

   مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية    مكتبة أبي حمود العلمية